سلّطت المجزرة المروعة التي ارتكبت بحق العزّل في صنعاء وراح ضحيتها 52 شخصاً، الضوء على اللامبالاة التي وسمت سلوك اليمنيين خصوصاً لجهة عدم إعطاء أهمية أو توقير للتشريعات المنظمة لحياتهم. فقد شكّلت هذه المجزرة ما يشبه الصدمة التي أيقظت اليمنيين من سباتهم الاجتماعي. فإن كان الكثير منهم تواءم مع الفوضى والارتجال في تصريف حياتهم اليومية، ومن ذلك التعايش مع أجواء الاقتتال والنزاعات وغياب القوانين أو عدم تنفيذها، فإن ما حدث يوم الجمعة الماضي شكل صدمة كبيرة فتحت عيون اليمنيين على حدث لم يكونوا ليتصوروه. سقط القناع عن الكل وظهر مدى التزويق والهشاشة في مفهومي المجتمع والدولة، إذ أن القتلة ما هم إلاّ مواطنون من نتاج البيئة التي اعتاد الجميع مداراتها. والأرجح أن جسامة الصدمة تتعلق بالطابع التمثيلي للحدث وسرعة إنجازه، إذ أن المجزرة ارتكبت خلال بضع دقائق، واستهدفت مواطنين عُزّلاً من السلاح، ولربما لم تكن الحادثة لتخلف هذا القدر من الجزع والذهول الجماعيين لو حدثت عمليات القتل ب «المفرد»، وسقط هؤلاء في أحداث متفرقة وإن في يوم واحد. فقد سبق لليمنيين أن شهدوا حروباً، ولكن مجزرة الجمعة تركت أثراً مختلفاً عن كل ما مرّوا به. فمن المعلوم عن الشخصية اليمنية «المرتكبة» تفاخرها وتباهيها بالقتل، بحيث تحوّلت حوادث الاقتتال إلى حوادث مألوفة، فلا يعتبر سكان بعض الأحياء استيقاظهم أو نومهم على أصوات إطلاق الرصاص بسبب نزاعات على الأراضي أو على أي شخص آخر ما يخلّف قتلى هنا أو هناك، حدثا جللاً. وتكشف المجزرة عن مدى الخلل الضارب في بنية النظام الاجتماعي والسياسي، فالاتكالية التي بقي يتعامل بها اليمنيون خلقت نظاماً مبنياً على القوة أكثر منه على عقد اجتماعي واحترام القوانين، وعلى هذا الأساس العصبوي تكونت الضمانات التي تُسيِّر على ضوئها الجماعات الاجتماعية شؤونها. وبات من لا يحوز عصبية أو قوة، هدفاً سائغاً للظلم بأشكاله المختلفة. وينتشر في اليمن القصاص الشخصي الذي يصل أحياناً إلى اقتحام السجون، من أجل الثأر. وأصبحت القوانين والتشريعات، بما فيها الدستور، مجرّد مطيّة لمن يمتلك القوة، وليست قوة في حد ذاتها. ولهذا من النادر أن تجد من يولي اهتماماً للاطلاع على القوانين المنظمة للمهنة أو للعلاقات. وتُبيّن دراسات ميدانية وأطروحات جامعية عدم ثقة كثير من اليمنيين بالقانون ومؤسسات القضاء، وجهلهم بالقوانين، وفي كثير من الأحيان، عدم الرغبة في معرفتها إذ «أنها لا تطبّق على الجميع». وينسحب مثل هذا الأمر على ممارسات السلطة، ويبدو لافتاً، على سبيل المثال، الإعلان عن حال الطوارئ في الوقت الذي لا يوجد قانون للطوارئ في اليمن، وهو ما لم تتنبّه له إلاّ قلة قليلة من القانونيين. ويُقحم ضعف المعرفة القانونية البعض في إطلاق مواقف «جاهلة»، كمناداة قيادي معارض بسجن الرئيس وأبنائه، فيما ينص الدستور اليمني على «أن محاكمة رئيس الجمهورية تتم فقط بطلب من نصف أعضاء مجلس النواب». ولا يُشكّل انتشار السلاح وحده سبباً لاستمرار الاختلال في الحياة العامة، بل وترفده الاتكالية والممانعة في تطبيق القوانين كحاكم فصل، لا بهدف التشدّق بها وتجييرها وتذكرها عند الحاجة. وتغذي اللامبالاة والتواطؤ ثقافة أبوية ووعياً غيبياً يرد الظلم إلى القضاء والقدر، ويجعل الاقتصاص من الظالم مناطاً بقوى غير بشرية، ويعود ذلك إلى شيوع عدم الثقة بالممثلين المنتخبين، ومثلها التقاعس عن محاسبة القائمين على تصريف شؤون الناس. وفي مفارقة، تبادر وزارة الداخلية إلى إغلاق مراكز للشرطة على خلفية ارتكابها مخالفات أو فساد، ولكن من النادر أن تكشف الجهات الرقابية أو تلك الممثلة للشعب عمّا يجرى داخل الدوائر الرسمية من خرق فاضح للقانون. وربما شكلت المجزرة التي ارتكبت أخيراً الحدث الأكثر تأثيراً، والذي يفرض على اليمنيين إعادة النظر في سلبيتهم والعمل بشكل جدّي لتأسيس صيغة عقد اجتماعي ينهض على المساواة أمام القانون بدلاً من الاتكاء على العصبيات وتمجيد القوة وهذه ثقافة ما انفكت تتطاول منذ نحو خمسة عقود على أي قواعد إدارية وقانونية تُنظّم الدولة والمجتمع... أن وُجدت!.