«الست بثينة»، هكذا عرفها رواد مسرحها في مدينة الفيوم المصرية التي تقع جنوبالقاهرة على بعد ثمانين كيلومتراً، أما مسرحها الذي ارتادوه فهو بيتها الذي يقع في منطقة الكاشف الشعبية في الفيوم. بثينة، التي رحلت في صمت، حكاية تستحق أن تروى، فقد عشقت المسرح منذ الصغر، وقدمت في شبابها الكثير من العروض المسرحية من خلال مسرح قصور الثقافة، ومن ثم قررت بعدذاك أن تستقل، في وقت لم تكن ظاهرة الفرق المستقلة في مصر قد عرفت بعد. اختارت أن يكون مسرحها هو بيتها البسيط، أما أفراد فرقتها فهم جيرانها وجاراتها في الحي، والعروض التي تقدمها تناقش مشاكلهم وقضاياهم، وكل ما يمس حياتهم، والدخول إلى المسرح، الذي لا يتسع سوى لعشرين مشاهداً بالكاد، مجاني، تعلق لافتة على باب البيت بعنوان العرض وأبطاله، وأمام اسم كل منهم الدور الذي يلعبه، وتدون كذلك اسم من صمم الديكور والإضاءة ووضع الموسيقى. لم تدرس المسرح في معهد أو أكاديمية، ولا درست أي شيء، فهي بالكاد «تفك الخط»، كما يقولون. فقط اعتمدت على وعيها، وموهبتها، وعشقها للمسرح، وخبراتها التي حصَّلتها من المخرجين الذين عملت معهم. وعلى رغم ذلك، قدمت نصوصاً لكبار الكتاب مثل توفيق الحكيم ومحمود دياب، واختارت من النصوص ما يناسب الجمهور البسيط الذي تتوجه إليه وتتماس معه. وكأي سيدة مسرح محترفة كانت تجهز للعرض فترة طويلة، وتعقد بروفات القراءة، أو كما يسميها المسرحيون في مصر «بروفات الترابيزة»، ولأنها لم تكن تملك منضدة في بيتها، فقد كانت تعقد جلسات القراءة على «الطبلية» وهي منضدة دائرية ترتفع عن الأرض حوالى نصف متر، ويلتف حولها الآكلون، أو الممثلون في حالة الست بثينة. ولأن المسرح كان عشقها لمجرد العشق، فقد قررت ألا تتكسب منه، ولأجل ذلك عملت في مهن عدة. عملت بحياكة الملابس لأطفال وسيدات الحي، وعملت في كهرباء السيارات، وكانت السيدة الأولى، وربما الوحيدة، في الفيوم التي تستخرج رخصة قيادة سيارة أجرة. عشرات المسرحيات قدمتها الست بثينة في بيتها وسط ترحيب ومحبة الجيران وجيران الجيران الذين التفوا حولها وآمنوا بمشروعها التنويري، بل ووسط ترحيب المسرحيين في مصر الذين كانت زياراتهم للفيوم لا بد من أن تتضمن الذهاب إلى بيت الست بثينة، سواء أكانت تقدم عرضاً، أم كانت في فترة راحة أم تحضير لعرض جديد. وعلى رغم ذلك، لم تحظ هذه السيدة بأي اهتمام من وزارة الثقافة أو أي من المؤسسات الرسمية، وإن اهتم بها في شكل خاص المخرج والناقد المسرحي جمال قاسم وأعد عنها فيلماً تسجيلياً ربما يكون الوثيقة الوحيدة التي تقول إن سيدة عشقت المسرح وقدمت له الكثير من الأعمال، قد مرَّت من هنا. كافحت السيدة ولم تتاجر بمرضها ولا بظروف ابنها المعوق، كانت تقول إن وقوفها على المسرح ينسيها آلام المرض وأنه – المسرح – علاجها الوحيد للتغلب على أزماتها الصحية والنفسية، أما ابنها فقد درَّبته على العمل معها، وأصبحت مهمته تنفيذ الإضاءة، واختيار الموسيقى الملائمة لكل عمل وبثها من خلال جهاز كاسيت أثناء العرض. وحدها، ومن دون أي مساعدة من أحد، قدمت الست بثينة على مدى سنوات عمرها التي جاوزت السبعين، أكثر من مئة وعشرين عرضاً مسرحياً، جميعها موجه إلى البسطاء من أهل حيها، ووحدها رحلت من دون أن يسير في جنازتها سوى بعض المسرحيين من أبناء الفيوم، والكثير من البسطاء الذين التفوا حول مسرحها، ووضعوه على أجندتهم اليومية، كملاذ آمن يرون فيهم أنفسهم، ويرون في سيدته معلمتهم الأولى ومصدر بهجتهم الوحيد.