يفترض في الحقل المعرفي أن المفكر هو من ينتج الأفكار، وأن الأفكار هي مصادر الخطابات ومرجعياتها، إذ يقوم المثقف بتحويل الأفكار إلى خطابات واعية بأهداف الفكرة وأبعادها، وواعية بوقائع المجتمعات وأخلاقياتها، وواعية بأحداث العالم وتغيراته ومستقبلياته، وبذلك تتحقق نتائج المقدمات، ويتوافر الجهد على خلق السلوك المطلوب العيش فيه أو التعايش معه. كل ذلك في الافتراض السليم للتركيب الفهمي والتطبيق السلوكي. بيد أن الحال تختلف جداً حين يَغيب أو يُغيب المفكر أو يضعف إنتاجه، وفي المقابل حين يكون ثمة طلب متزايد على الإنتاج الخطابي. وهذا الطلب له ما يبرره من أحداث تتسارع ووقائع تضغط بثقلها على الحياة بكل اتجاهاتها، وفجوة معرفية وثقافية وقانونية ترسم الخوف من مستقبل مجهول ومصائر مرعبة، في حال لا تعني سوى فقدان التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. الأمر الذي يهدد الوجود ما يتحول بالحال الإنسانية إلى مواقع الدفاع بدلاً من مراكز الإنتاج! لقد أدى هذا الوضع إلى تضخم الخطاب الثقافي على الإنتاج الفكري، فخطابنا اليوم ينتجه خطاب مثله، ما يضعف النسل الثقافي، وها هو شاهد الحال في المنتج الثقافي اليومي عبر الصحافة والتلفزة، وغير ذلك من وسائط النشر والإعلام! فالخطابيون وليس المفكرون هم البداية والنهاية في خلق المشهد الثقافي وتعبئة الرأي وتحريك الجدل، حال وجدوا أنفسهم فيها أو صنعتها لهم الأحداث، وفي أحيان أخرى كانوا هم ضحايا الظروف ووقود نار أشعلتها السياسات وأضرمتها الحزبيات والمذهبيات. وأياً كان السبب، فهذه نتيجة حتمية لمن فقد بوصلته، وأضاع وجهته، وخف وزنه في مهب الريح، فنفخ فيه من «استخف قومه فأطاعوه»! وثمة خطابيون رخيصون جداً في مزاد القول المزخرف، يتسلقون الإعلام بمفردات كبيرة ومسميات عميقة، ليس أحد أقل فهماً لها منهم، فصرنا نرى ونسمع نعوتاً ك «المفكر، والفيلسوف، والباحث، والمتخصص، والاستراتيجي»! بينما الحقيقة مختلفة جداً، ولو كان هؤلاء كما هي النعوت كثيرة لكنا مجتمعات العلم وبيئات المعرفة وسلوكيات القيم، ولكن الأمر كما يقال: «فاقد الشيء لا يعطيه»! وبالطبع فإن السيئات ليست إلا فقدان الحسنات، والباطل ليس أكثر من غياب الحق. ومن هنا ينبثق السؤال أو الأسئلة حول دور المفكر في مجتمعه؟ فأين هو؟ وما آلياته التواصلية؟ وكيف هي شكل علاقته مع وسطاء الخطاب؟ يبدو اليوم أن المفكر بحاجة أكثر من غيره إلى إعمال تفكيره في ذاته لإخراجها من الحال السالبة إلى الحال التفاعلية التشاركية التي تصل إلى حد أبعد من التفكير، أي إلى ممارسة الخطابية الفكرية والخطابية الثقافية. إن المزاولة الخطابية تخضع للرقابة والتقويم المجتمعي، فقد فقد بعض الخطابيين مكانته وصدقيته حين أصبح بطل كل قصه، وحين جعل من نفسه النائب العام عن المجتمع ورأيه، بل جعل من نفسه من يرسم للمجتمعات خريطة طريقها في الحياة. وباعتبار أن «السمعة سلطة»، فإن ما يشكله الخطابيون من الانطباع السلبي عنهم لا يمكن وليس بمقدورهم تغييره ببساطة ساذجة كما يتوقعون. إن الطريق الصحيح المنشود لن يكون إلا بدعم الفكر وأهله، وتشكيل العلاقات وبشكل صحيح بين المفكرين والمثقفين من جهة وبين القيادات والسياسات من جهة أخرى، في حال تسمح للبناء والعطاء. الأمر الذي سيعود على المجتمعات بالوعي والرخاء ويكسبها الثقة بساستها ومفكريها ومثقفيها، بدلاً من حالات التشظي والتشفي والانقسامات. وإن يقظة الاهتمام والتنبه الباكر ترمز للإدراك وتشعر بالأمل وتعطي الأمان، وأما التأخر في أي معالجة فلا يعني إلا تفاقم الإشكاليات، وأول ذلك تفويت الفرص السانحة للحلول والتطوير والتغيير، والواقع المتسارع اليوم يحتم أسلوب السرعة ويحذر من التباطؤ. [email protected]