فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    33 ألف منشأة تحت المراقبة استعدادًا للحج    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    أمير الرياض يرعى تخرج المعاهد والكليات التقنية    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    وصول أول فوج من حجاج السودان    الخريجي يشارك في مراسم تنصيب رئيس السلفادور    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    «نزاهة»: إيقاف 112 متهماً بالفساد من 7 جهات في شهر    المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    نتنياهو.. أكبر عُقدة تمنع سلام الشرق الأوسط    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    الصدارة والتميز    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    الأزرق يليق بك يا بونو    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    مسبار صيني يهبط على القمر    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطابنا النهوضي من الجدل إلى السجال
نشر في الحياة يوم 23 - 05 - 2009

يكشف خطاب النهضة العربية عن أولوية قضايا مركزية كالعقلانية والديموقراطية والعلاقة مع الآخر. ويكشف تحليل هذا الخطاب كيف أنه تحول من الجدل مع الواقع، إلى الجدل مع نفسه عندما أخذ يخضع تدريجيّاً لبنية ثنائية بلغت من حدة الاستقطاب بين ثنائياتها على صعيد كل القضايا درجة مانعة للتفاعل الجدي والصحي بين طرفيها. وإزاء ذلك تحول الجدل إلى سجال اندمجت كل ثنائياته في موقف سكوني عميق، استمرت معه قضايا الجدل حول ضرورة تغيير المجتمعات العربية بعد صدمة احتلال العراق، هي القضايا نفسها التي دارت حولها موجة المراجعات بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وانتكاسة المشروع الناصري واهتزاز عقيدة القومية العربية. وهي أيضاً أو بعضها كانت مداراً للجدل بعد هزيمة «هوجة» أحمد عرابي وخضوع مصر للاحتلال البريطاني. بل، وقبل ذلك، كانت هذه القضايا نفسها موضع تساؤل الوعي العربي في إطلالته الأولى على العالم الحديث منذ حملة نابليون على مصر قبل قرنين أو أكثر. وعلى رغم خصوصية الإشكالات التي أثارتها هذه القضايا في كل مرحلة، فإنها تشترك في ملمح أساسي يتمثل في «الدائرية»، أي تكرار طرحها على نحو حلقي متكرر، وربما «الاستاتيكية»، أي استمرارية طرحها على نحو متصل من دون قدرة، لدى الفكر العربي المعاصر، على تجاوزها أو إحداث قطيعة معرفية معها.
فقضية العقلانية مثلاً والتي كرَّس لها العلم الطبيعي بمنهاجيته الشكية التجريبية، هي مطلب الثقافة العربية منذ مطلع العصر الحديث. وكذلك الديموقراطية التي تثير الجدل الفكري والسياسي العربي منذ القرن العشرين ولا تزال. وانتهاءً بقضية العلاقة مع الآخر التي شغلت الذهن العربي ودارت حولها مناظراته المتعددة سواء بين تياراته المتباينة أم مع الآخر نفسه منذ ثمانينات القرن التاسع عشر التي شهدت مناظرات جمال الدين الأفغاني مع أرنست رينان، وحتى تسعينات القرن العشرين التي كشفت عن حدة انفعالات وعمق انزعاج الوعي العربي من دعوى صدام الحضارات حينما أطلقها المفكر الأميركي الراحل صامويل هانتنغتون، وعندما تبنَّاها اليمين الأميركي المحافظ عملياً بعد أحداث أيلول (سبتمبر) بدعوى مكافحة الإرهاب وصولاً لاحتلال العراق. وعلى رغم تغيرات دقيقة في التفاصيل والملابسات، فإن استمرار طرح هذه القضايا على مستوى البنية عبوراً على فواصل القرون، وحواجز الزمن إنما يثير التساؤل حول دوافعه. وفي اعتقادنا أن ثمة دوافع ثلاثة فكرية وسياسية وبنيوية؛ الدافع الأول يتعلق بحالة «الانشطار» في المرجعية الثقافية والتنافس الشديد بين طرفيها والذي يؤدي إلى أن يصبح جدل الفكر مع الفكر بديلاً لجدل الفكر مع الواقع، وهو ما يمثل معوقاً لتطور الواقع ولإنجاز الأهداف التي يطرحها الفكر، الذي وقعت تياراته ولا تزال في حال اشتباك لم تنفض بعد منذ مطلع العصور الحديثة. ومن ثمَّ تجد هذه التيارات نفسها أسيرة لحال استقطاب تقود إلى ضعف تأثيرها جميعاً في مجرى الحياة العربية لأن الجهد الأساسي لكل تيار فكري إنما يتبلور غالباً ويبذل في مواجهة تيار فكري آخر وليس في مواجهة الواقع نفسه، الذي يبدو هو الآخر أكثر حيرة وقلقاً إزاء ما يشهده من تنافسية تيارات متناقضة جذرياً على محاولة إلهامه فيقيم تعامله معها على أساس من الشك فيها جميعاً، ومن ثم رفض كل توجيهاتها خضوعاً لملابسات الحركة الضاغطة، والظروف الآنية من دون إلهام من رؤية شاملة، الأمر الذي يضعف كثيراً من تأثير الفكر على الواقع ويعزل كل منهما عن الآخر ليبقى الواقع جامداً، وهكذا تبقى أسئلته ومشكلاته وأهدافه ثابتة، ومن ثم تبقى قضاياه الكبرى مطروحة على نحو مستمر.
أمر آخر مهم يترتب على انشطار المرجعية الثقافية يتعلق بقضية التراكم والانقطاع، إذ غالباً ما يؤدي هذا الانشطار المرجعي إلى تقسيم شبه جذري للنخب السياسية المتحلقة حوله، تكون من نتيجته نزعة إقصاء ورفض للآخر الداخلي: الطبقي، الحزبي، القبلي .. الخ، مع الاستعداد للانقضاض عليه والقضاء على كل ما يمثله من أبنية ورموز إذا ما توافرت الظروف المساعدة، ما يؤدي في النهاية إلى دخول المجتمع في نفق التحولات الانقلابية بين أنظمة سياسية جد مختلفة تراوح بين هذه المرجعية وتلك، الأمر الذي يقود إلى الانقطاعية لأن كل نخبة تحاول إلغاء تجربة سابقتها ليبدأ المجتمع من جديد مع كل تحول سياسي جديد «السودان مثلاً في العقود الثلاثة الأخيرة نموذجاً بالغ الدلالة ربما لدرجة الإثارة، وكذلك الجزائر في العقدين الماضيين، وأيضاً مصر في ربع القرن الماضي وإن بدرجة أقل سفوراً»، فضلاً عن لبنان، والعراق، ناهيك باليمن والصومال. ولا شك في أن هذه الانقطاعية تؤخر كثيراً حركة الواقع وقدرته على التطور لأنها تعطل قدرته على مراكمة الخبرة والتقاليد والإنجازات ومن ثم تقود إلى جموده واستمرارية طرح مشكلاته وقضاياه الكبرى أو الأساسية.
والدافع الثاني يتعلق بالتجربة الاستعمارية بكل مراراتها في عالمنا العربي والتي كان لها هي الأخرى أثرها في تعميق دائرية التفكير السياسي سواء بطريق غير مباشر يتعلق بتفجيرها لرفض تيار أساسي في الوعي العربي للآخر الغربي بوجهه الاستعماري، ومن ثم إثارة التناقض بين تيارات الفكر العربي ترسيخاً لحالة الانشطار في المرجعية على النحو الذي قد سلف، أم بطريق مباشر يتعلق بالانقطاع السياسي الطويل نسبياً والذي ولدته في مسيرة المجتمعات العربية في فترة مهمة من التاريخ تمتد بين القرنين التاسع عشر والعشرين وهي الفترة التي شهدت رسوخ الدولة القومية في الغرب، وتبلورها في بقية أنحاء العالم عبر تطور ذاتي تدريجي حرمت منه جل المجتمعات العربية، التي كانت دخلت إلى الفضاء الاستعماري من بوابة السيطرة العثمانية ولم تخرج منه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين ولديها المطالب المؤجلة نفسها في النهوض والتطور، ومن ثم الأسئلة نفسها عن المسالك والدروب والوسائل والأهداف والغايات «مفردات عمل الفكر»، والتي كانت مطروحة قبل حضور الاستعمار، وظلت مطروحة بعد رحيله على رغم مرور أكثر من قرن، لأن شيئاً ذا بال من هذه المطالب والأهداف لم يتحقق، ومن ثم ظلت أجندتها بين منتصف القرن التاسع عشر والعشرين شبه ثابتة ربما تطورت في تفاصيلها، فيما ظلت بنيتها ساكنة لأن الواقع نفسه كان كذلك على رغم مرور الزمن الذي شغله أو قطعه الاستعمار الغربي.
وربما زاد من وطأة هذه التجربة أمران دفعا إلى مزيد من الارتباك في مسيرة الفكر العربي. أولهما هو الشعور بالمرارة إزاء البنيتين التاريخيتين اللتين أحاطتا بالمجتمع العربي وعمقتا من أزمته: الأولى هي البنية العثمانية المنتمية في أكثر ملامحها إلى القرون الوسطى والقائمة على نوع من الإقطاع أو شبه الإقطاع العسكري، والتي كان الفكر العربي اعتبرها مسؤولة عن تخلفنا التاريخي الساحق الذي أوقعنا في إسار الاستعمار، ومن ثم لم يكن هناك أي تصور لاسترجاعها.
والثانية هي البنية الغربية المنتمية إلى العصر الحديث، واقتصاده العالمي المؤسس على نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكن المرتبطة بأشد نزوعاته جموحاً «المركزية الغربية»، وأكثر تجاربه عدوانية «الكولونيالية» والتي كانت مسؤولة بلا شك عن جريمة استعمارنا. ولعل هذا الشعور بالمرارة كان مربكاً جداً لأنه ضيَّق من خيارات الفكر العربي إزاء المستقبل الذي باتت تعوزه تجربة للنهوض حديثة ومستقلة وحسنة السمعة في الوقت نفسه باتت صعبة المنال.
وثانيهما هو حال التلفيق التي آل إليها المشروع التوفيقى بضغط الزمن عليه، ذلك أن إهدار نحو قرن من دون تقدم زاد من فجوة التخلف وضاعف الجهد المطلوب لتصفيتها أو حتى تضييقها بممارسة خيارات فعالة وديناميكية، وهي الخيارات التي لم تكن واضحة - على الأقل - وسلك الفكر إليها على عجل، فقادته العجلة إضافة إلى السياق الدفاعي المحيط به إلى التلفيق بينها بدلاً من إبداعها أو إقامة الجدل بينها فكانت النتيجة اضطراب الواقع الذي ألهمته، وتكريس تناقضاته وقصوراته بتناقضاتها وقصوراتها هي، ومن ثمَّ عجزه عن التطور. وكان طبيعياً آنذاك أن يبقى الفكر في معية الواقع، قابعاً بجواره يجتر نفسه، ويعيد طرح قضاياه من جديد على أمل الخروج من المأزق الكبير المحيط به والممسك بتلابيبه على شتى الصعد.
وأما الدافع الثالث فيتعلق بما يمكن تسميته «الارتباط البنيوي» بين هذه القضايا نفسها حيث إنها جميعاً مرتبطة بسياق واحد يمتد ليطول الوعي العربي كله على نحو يجعل كل منها جذراً لتاليتها، أو ثمرة لسابقتها على نحو ما تشكله الشجرة الخضراء من علاقات وتأثيرات متبادلة بين أجزائها. فغياب العقلانية مثلاً والناجم عن غياب العلم الحديث ومنهجه الشكي/ التجريبي، ومن ثم استمرار المناهج التقليدية للمعرفة سواء الصورية / المنطقية / الأرسطية أو الحدسية / الإشراقية / الصوفية إنما يقود إلى غياب الموضوعية على مستوى الوعي الفردي بالعالم حيث يغيب الشعور بالفردانية لمصلحة الروح الإدماجية التي تترسخ في ظلها الأبنية الاجتماعية والسياسية التقليدية حيث القبلية المهيمنة أو التسلطية القاهرة، أو على العكس يتضخم هذا الشعور إلى حد الدوغمائية وما تفرزه من أبنية سياسية واجتماعية تعاني من التطرف والعنف. وفي هذا السياق لا يتصور أن توجد الديموقراطية لأنها - كبناء سياسي - تجسد فضاءً ثقافياً متسامحاً يقوم على النسبي لا المطلق، ونظاماً اجتماعياً يقوم على التمايزات الحديثة الطبقية والمهنية والاقتصادية وليس على الانقسامات التقليدية / البيولوجية .. العرقية / القبلية، والدينية / المذهبية.
وتبدو قضية «العلاقة مع الآخر» كثمرة نهائية لهذه المتوالية / الشجرة، حيث يكون الآخر شريكاً مثالياً نزيهاً وموضوعياً ومتعاوناً حينما تزدهر الذات، وتنمو قدرتها على الفعل والتأثير في التاريخ. ذلك أنها تزداد ثقة بنفسها، ووعياً بدورها، ولا تجد لديها حاجة أو رغبة في تشويه صورة الآخر كي تبرر ذبولها في التاريخ، أو لتعفي نفسها من وطأة الشعور بالدونية أو التقصير. ولعل درس التاريخ يعلمنا أنه كلما ازدهرت حضارة نضجت تصوراتها عن العالم، والعكس صحيح أيضاً، فكلما تدهورت حضارة أو أمة تشوه إدراكها لهذا العالم والتبس بالدوغمائية مبتعداً عن الموضوعية التاريخية، حيث يستحيل الآخر عدوّاً أبدياً، وشيطاناً متآمراً. وكلما تم تهميشها أو حصارها وقلَّت من ثمَّ فرص الفعل والتأثير لديها، ازداد إدراكها تشوهاً إذ تندفع آنذاك لرثاء نفسها، وتبرير قصوراتها. والمهم في هذا السياق هو أن ارتفاع درجة التفاعلية بين هذه القضايا يربطها، تقريباً، برباط واحد بحيث تستدعي كل منها الأخرى غياباً وحضوراً، إيجاباً وسلباً. ومن ثم فحضور أي منها غالباً ما يستدعي حضور القضايا الآخرى، وهو أمر يؤدي إلى إعادة طرحها كحزمة متكاملة على وعينا العربي تكريساً لدائريته، وركوده وربما جموده القاتل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.