نحو الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد الخامس من رمضان 1431 الموافق 15/8/2010 مات الرجل العملاق الوزير المختلف عن كل الوزراء، الإداري الذي تميز على كل من عرفت من الإداريين، والشاعر الأديب الخطيب الفصيح الذي يكتب كما يتحدث من دون أن يتردد أو يشطب أو يصحح. ولد غازي في اليوم الثاني من الشهر الثالث من عام 1940 ، فكان في يوم وفاته قد تجاوز السبعين بنحو خمسة أشهر. لقد كان غازي رجلاً مؤمناً بالقدر خيره وشره أيماناً مطلقاً. وكان يقول منذ ثلث قرن على الأقل : « إنه أوصى أن يدفن في المكان الذي يموت فيه، أياً كان ذلك المكان، وبأسرع وقت ممكن، حتى لا يكلّف الناس لحضور جنازته». وهكذا حدث، فقد تمت الصلاة عليه وحضرها عدد من الأمراء والوزراء والأصدقاء وغيرهم من عامة الناس. وصلى عليه نائب أمير منطقة الرياض الأمير سطام بن عبدالعزيز، وأم المصلين سماحة مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ بعد صلاة العصر من يوم الأحد؛ وتم دفنه في مقبرة «العود» في الرياض. «اللهم أجعل قبره روضة من رياض الجنة» كما جاءني في رسالة تعزية من محبه الأديب السعودي الأستاذ حمد القاضي. ومن يعرفوا علاقتي بغازي يعزوني فيه كما يعزون أبناءه. وقد اتصل بي رجل لا أعرفه محاولاً تعزيتي ولكنه كان يبكي وينتحب بشدة ولم أستطع أن أفهم مما قال من ثناء علي غازي ودعاءٍ له إلا عندما تغير صوته ولامني شخصياً لوم المحب المعاتب لماذا لم تقل الحقيقة وأنت تعرفها حينما تم نقل غازي إلى أميركا خلال حج العام الماضي؟ وفي واقع الأمر أنني لم أقل إلا الحقيقة حينما تم نقله رحمه الله بالإخلاء الطبي إلى مستشفى «مايو» في ولاية «مينسوتا». فالذي حصل أنه كان عند غازي رحمه الله، قرحة في الإثني عشر، منعت الطعام من الانتقال إلى الأمعاء الدقيقة. وقبل نقله إلى «مايو» أخذ الأطباء في مستشفى الملك فيصل التخصصي عينات من منطقة القرحة. وكانت كلها حميدة. وكذلك فعل الأطباء في «مايو» ووجدوا كل العينات التي أخذوها أيضاً حميدة. فهذا ما كنا جميعاً نعرفه وهذا ما قلته ل «الحياة». ولكن حينما استمر العلاج لمدة تجاوزت أربعة أسابيع، ولم يؤد العلاج إلى ما كان ينبغي أن يؤدي إليه، فتح الأطباء المعدة جراحياً بمنظار، فرأى الجرّاح عشرات الحبيبات التي تشبه حبوب العدس منتشرة في السطح العلوي للمعدة. وصارت المعدة تشبه «القربة» المنفوخة الفارغة. وبالطبع عرف الجراح سبب المعاناة ونوع المرض. وهذا نوع معروف من أنواع السرطان القليلة جداً التي يتعذر علاجها. وبمجرد أن اتصلت بي زوجته المرأة الفاضلة الصابرة «أم سهيل» وقالت لي تمت الجراحة، عرفت من نبرة صوتها أن الأخبار غير سارة، وحينما قالت لم اتصل بغيرك بناءً على طلبه سقط التليفون من يدي ولم أكن بحاجة إلى متابعة المكالمة. بعد ثلاثة أيام، اتصلت بغازي رحمه الله ووجدته كما عهدته ضاحكاً شامخاً عالي المعنوية. وقال لي : «لا تحزن ولا تتألم، سأقاوم بكل ما استطعت من قوة. ولكن الأمر لن يتجاوز بضعة أشهر قبل أن ألقى خالقي فادعُ الله معي على أن يحسن لقائي برب العزة والجلال». خضع للعلاج الكيماوي الذي أعطاه القدرة الموقتة على الذهاب إلى البحرين لقضاء ما تبقى له من حياة مع أبنائه وأحفاده. وبالذات حفيده «العفريت» سلمان ابن فارس بن غازي. وهكذا كان. أكتب هذه السطور بعد وقوفي على قبر صديقي الصدوق، الذي لم أسمّه قط، بأكثر من غازي. لا يا دكتور ولا يا أبا يارا ولا يا أبا سهيل كما يسميه نفرٌ من أصدقائه. رأيت العباءة التي أعرف جيداً تغطي كفنه فذرفت دموعي التي بذلت جهدي لإخفائها. أتقدم بالتعازي القلبية لزوجته الفاضلة التي لم تفارقه لحظة واحدة خلال وجوده في المستشفى التخصصي في الفترة الأخيرة، وإلى صديق عمره ورفيق حياته وابن أخته الصديق (وزير التخطيط) الأستاذ خالد القصيبي وإلى ابنته يارا، وزوجها فواز بن فهد القصيبي الذي كان بمثابة الابن لغازي حقيقة لا مجازاً، وأخوتها سهيل وفارس ونجاد وإلى القصابا جميعاً. ولا أنسى في هذه العجالة الصديق المشترك الأخ عمران بن محمد العمران رمز الصديق الوفي الذي رزئ بغازي كما رزئت به وكما رزئت بوفاته أسرته الصغيرة والكبيرة وأصدقاؤه الأوفياء المقربون كالصديق المشترك ( أمين عام مجلس الوزراء ) الأستاذ عبدالرحمن السدحان. لن أذكر أكثر مما ذكرت في هذه العجالة عن رجل لو كتبت آلاف الصفحات عنه ما استطعت إيفاءه حقه. وسأختتم برسالتي تعزية وصلتني على الجوال من الصديقين(محافظ مؤسسة النقد) الزميل الدكتور محمد الجاسر ومن الصديق العزيز صالح بن محمد العذل. ورسالة ثالثة أرسلها الشيخ إبراهيم البليهي للأخ عمران العمران وبعثها الأخ عمران لي. كتب الأستاذ صالح العذل: « نعزيكم، ونحن نعزي أنفسنا فيه. نعزيكم في إنسان فقده الوطن، رجل أخلص لفكره وقيمه ومبادئه وأخلاقه، في شاعر كبير عبقري مبدع، في مفكر ثاقب الفكر والرأي، في أديب مثقف واسع الإطلاع، في موهوب متعدد المواهب والانجازات، في إداري متمكن قدير، نعزي وطننا الصغير والكبير فيه، ونعزي أبناء الوطن العربي. رحم الله الفقيد». كتب الدكتور الجاسر: «لقد صدقت: لقد كان غازي رحمه الله موسوعي الثقافة، حاد الذكاء والبصيرة، محباً ومعطاء بغير حدود ما دام المُعْطَى الوطن ومواطنوه. قلما يجود الدهر بمثله. فعلى الله الخلف وإليه المآل». يقول الشيخ البليهي: «القصيبي أكبر من أن نشهد له، وأعظم من أن نرثيه. والمصاب به أفدح من أن يسمح لنا بالكلام عنه. إنه رجل الفكر، ورجل المواقف، ورجل الشجاعة، ورجل الصدق، ورجل التنوير، ورجل الأدب، ورجل الإدارة. إنه طاقة استثنائية. إنه حزمة من المواهب فلو اجتمع الملايين لما سدّوا مسدّه، ولا قاموا مقامه، بالكثرة لا تصنع القدرة. إنه إنسان استثنائي في كل ما تعنيه الاستثنائية. رحم الله غازي فالمصاب به فادح والألم بفقده فظيع». وللموضوع بقية عن غازي الإنسان، وغازي الصديق، وغازي المفكر، وغازي الإداري. والله من وراء القصد. *أكاديمي سعودي