هناك أمراض تصيب الفكر قد لا يعلم بها كثير من الناس في أي مجتمع وتنمو هذه الأمراض دائماً في أي مجتمع أغلق الباب (فكرياً ) على منهج و( يعتقد) بأنه هو الحقيقة كاملة وما وراء اعتقاده فهو غير صحيح … وقد لمست من خلال مناقشاتي على أدوات التواصل الاجتماعي مرضاً أسميه (مرض الحكم على الناس ) وتقييمهم بل ولصق التهم جزافاً واعتباطاً وجهلاً : فلان نشم من رائحة كلامه بأنه (ملحد) أو ليبرالي أو صوفي أو علماني أو من مذهب آخر أو معتزلي ….. ومن هذه التهم الباطلة ولا تصدر هذه التهم من هؤلاء إلا بعد أن يضعهم محاوروهم بالنقاش في خانة الحقيقة المرة التي لا يعترفون بها وهم غالبيتهم من صنف (الجهل المركب) ، ثم يبدأ تحويل النقاش من موضوع جوهري إلى موضوع جانبي لتبدأ معركة رد الاعتبار أو تبرئة النفس من الاتهامات الموجهة دوماً نرى تحول النقاش وخصوصاً مع أهل الجهل المركب بصراع شخصي لا علاقة له بموضوع النقاش فهل هذه أزمة مجتمع ؟ أم مرض مستأصل ؟ أم فكر عقيم لا يريد أن يتطور أو أضعف الإيمان أن ينفتح على فكر الآخر؟ ….. ونرجع لمفهوم (الحكم على الناس ) ونقول لا يحق لأحد أن يحكم على الناس إلا عالم متبحر خبير بأحوال وأفكار كل ملّة وعلى بيّنة واضحة الدلالة وليس مجرد أن يشمّ رائحة وهو مزكوم الأنف أصلاً فكيف يشمّ ؟ . يقول الله تعالى في محكم آياته : ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينّاً وهو عند الله عظيم )سورة النور . إذاً قوله تعالى : ( …ما ليس لكم به علم …) أي دليل قطعي على الحكم فهذا الذي يجري حالياً في مجتمعنا هو خروج عن تعاليم القرآن الكريم وتعصب جاهل لملّة معينة أو مذهب بعينه فالعالم الذي يجلس على كرسيّ العلم ويتناقش مع غيره يجب أن يتجرد من عصبيته وهواه وما يحبه لأنه ليس من المعقول أن كلّ ما اقتنع هو به هو الصحيح وغيره على خطأ .. وكذلك من يتصدر لنقد الآخرين يجب أن يتعلم أدب وأصول النقاش وأن يتحلى بالصبر وعدم الانفعال لأنّ العلم أساسه الصبر والحلم فلا علم بلا صبر وحلم والتسرع في الحكم يكشف عورة المتكلم الفكرية ويحط من مكانته العلمية بل ويتردى من سلم مقامات العلم العليا إلى التنابذ والشتم والقذف وهذا لعمري هو الجهل المركب وخلاء وفقر فكري لدى هذا المريض وإلا لو كان لديه علم سوف يرد من خلال كتاب الله ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بما قال فلان وقال فلان فجميع أقوال الناس من علماء وغيرهم قابل للخطأ والصواب بخلاف القرآن الكريم والسنّة النبّوية الصحيحة حصراً . ويقول ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه : مفتاح دار السعادة ، وكلامه ينطبق حرفياً على واقعنا الآن : وأما من يرى أنّ الحق وقفٌ مؤبد على طائفته وأهل مذهبه وحجر محجور على من سواهم ممن لعله أقرب إلى الحق والصواب منه فقد حُرم خيراً كثيراً وفاته هدىً عظيم … والنصيحة التي أتمنى أن يتدرب عليها من به هذا المرض المردي المخيف كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمع من أمنا حفصة كلمة : تلك الحميراء .. في وصف أمنا عائشة رضي الله عن أمهات المؤمنين أجمعين ..غضب واحمّر وجهه وقال : " لقد قلت آنفاً كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " وهي كلمة واحدة وهي قالتها استخفاف وغيرة من أمنا عائشة وفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليها بعقوبة الاستخفاف بالآخرين حيث قال : " يتفوه المرء بالكلمة تودي به في نار جهنم سبعين خريفاً وهو لا يدري " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . يجب أن يتجرد أي نقاش عن الهوى والعصبية المذهبية والقبلية والجنسية أيضاً فلان من جنسية كذا من أين له العلم ….وكأن هذا الذي حكم لديه سلطة وهو نائب لله في توزيع الأحكام وتقييم الناس في الديوانيات والمجالس وكل يريد أن يتصدر المجلس على حساب الآخرين إما حسداً أو غلبة لسان أو تصفية حسابات قديمة وجاء في السنّة الشريفة من حديث رواه الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين والذي نفسي بيده لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولاتؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يُثبت ذاكم أفشوا السلام بينكم .." المؤمن الحقيقي هو حسن الظن بالآخرين ويكون منصفاً في حكمه ويتحرى لأخيه في الحوار مواطن الخير في كلامه ويحمله دائماً على هذا المحمل فالمؤمن تفكيره إيجابي للخير دوماً وليس سلبي ويظن بغيره الظنون ومن أجمل ما قرأت في هذا الصدد حوار دار بين الإمام الشافعيّ وبين تلميذه الربيع بن سليمان عندما جاءه الأخير يعوده وهو مريض فقال للإمام : قوىَّ الله ضعفك . فقال الشافعي : لو قوىّ الله ضعفي لقتلني . فقال ربيع : والله ما أردتُ بهذا إلا الخير …فقال الإمام : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير … وغالباً ما يكون السكوت هو أفضل من عدم الرد وأسلم من كلام في الحكم على الآخرين لأنه قد يكون بداية لفتنة أكبر وتصبح الكلمات أقوى وأحدُّ من السلاح وألمها شديد على النفس . ومن الطبيعي لجميع طبقة المفكرين والمثقفين أن يكونوا منفتحين على الحوار يحترمون آراء وأفكار الآخرين واحترام ما يعتقدونه وإن خالف فكرهم والعلم أوسع من فكر الجميع ولولا اتساعه لما كانت هناك مذاهب في الشريعة الإسلامية على سبيل المثال فقط ، ولا تنوعت الفتاوى واختلفت والكل على صواب..فكيف نثري معلوماتنا إذ كنا نضع فكرنا في قوقعة محدودة والعلم ليس له حدود تحدده وفي النقاش غالباً ما نجد الحكمة الضالة بالخروج عن التأطر الفكري الضيق وهذا سبب جوهري من أسباب أي نهضة فكرية .. وشتّان ما بين الحكم على الناس وبين الحكم بين الناس فالأول لله جلّ جلاله والثاني لأهل العلم وليس لمدعي العلم من بعض المثقفين . مرتبط