اللغة هي نظام معين من الرموز ذات المعاني يتواصل من خلالها أفراد مجتمع معين وكما يقال "الكلام هو أول مؤسسة اجتماعية" ، وتختلف هذه الرموز وتتنوع من مجتمع إلى آخر فاللغة في مجملها آية من آيات الله كما قال عز من قائل ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).. فعلى الرغم من وجود وسائل التخاطب المختلفة لدى بعض الكائنات إلا أنها لا تشكل نظاماً لغوياً متكاملاً كما هو حاصل لدى البشر. اللغة بشكل عام تعد وعاءً حاملاً للإبداع بمختلف فنونه وبقوة اللغة تكون قوة الإبداع والعكس، فاللغة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل وانتقال التجارب والخبرات والمعارف من جيل إلى آخر. فاللغة أداة منطقية للتعبير عن المشاعر والعواطف والأحاسبس وقد يرقى هذا التعبير إلى حالة إبداعية كالشعر والنثر بأنواعه وغيرهما وقد يكون التعبير قاصراً ولا يرقى إلى نقل الحالة الوجدانية للفرد كما هي في الشعور والسبب في ذلك ليس قصوراً في اللغة ولكنه قصور في تحصيلها وغياب مفرداتها اللازمة للتعبير أو عدم القدرة على التركيب والبناء اللغوي ليرقى إلى مستوى التصوير الكامل لما في داخل الإنسان من مشاعر وأحاسيس ونقلها للآخرين. ولأننا كبشر لا نفهم أنفسنا وما حولنا إلا بالتفكير فإن اللغة هي أدة للتفكير والشعور وهي الأداة التي يعبر بها الفرد عن أفكاره فالتفكير بحد ذاته حديث داخلي دون أصوات فهو يسبق اللغة ولكنه يرتبط بعملية تطويعها وتطويرها لتصبح قادرة على التصوير وكما قال عميد الأدب العربي طه حسين: " نحن نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر ، ومعنى ذلك اننا لا نفهم أنفسنا ألا بالتفكير ، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نفرض الأشياء على أنفسنا إلا وصورة هذه الألفاظ التي نقدرها ونديرها في رؤوسنا ، ونظهر فيها للناس ما نريد ، فنحن نفكر باللغة ، التي هي أداة للتفكير والحس والشعور، قياساً إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضا". من جانب آخر فاللغة هي عنوان للهوية بشكلها العام أو الهوية الثقافية بصفة خاصة فاللغة تشكل ذواتنا وتشكل صيغة الآخر في أذهاننا والعكس ، يقول الفيلسوف الألماني هيدجر "لغتي هي مسكني هي موطني ومستقري هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع" وبالنظر إلى اللغة كهوية فمن المسلم به أن الحضارات الإنسانية المختلفة على مر التأريخ ارتبطت بلغة معينة دونت معارفها وأدبياتها وسهلت التواصل بين أفرادها وأجيالها وكما أن الحضارات تتداخل وتتلاقح وقد تهيمن حضارة على أخرى فإن اللغات تحذو حذوها فقد تهيمن لغة على أخرى بالتأثير المباشر أو الغير مباشر أو بالقوة وتفاوت نسبة النجاح في ذلك فحقيقة الأمر أن اللغة ليست الهوية الكاملة ولا تطمس الهوية بطمس اللغة مثالاً لذلك ما حدث في الجزائر إبان الإستعمار الفرنسي الذي سعى إلى طمس الهوية عن طريق طمس اللغة ولم ينجح في ذلك ، فالتأثر بالآخر نتيجة بديهية لغلبة حضارة لحضارة أخرى وهي مرتبطة بالسلوك الإنساني بشكل عام كما يقول ابن خلدون: " إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك الاقتداء، أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب". فحين كانت الدولة الإسلامية قوية ومسيطرة أيام الدولة العباسية انتشر اللسان العربي وحين دخل العجم ساد لسانهم لولا حفظ الله اللسان العربي بالكتاب والسنة. وفي عصرنا الحاضر تتجسد الهيمنة اللغوية في الاستحواذ على مخرجات البحث العلمي ومصطلحاته خاصة في الجانب التقني فاللغة الإنجليزية هي المهيمنة على هذا الجانب حتى ينعتها البعض بلغة العلم ، ففي مجتمعاتنا العربيةرغم محاولة البعض التحرر من هذه الهيمنة عن طريق التعريب وتدريس المواد العلمية باللغة العربية في الجامعات إلا أن الواقع يبرز الهيمنة الشبه مطلقة للغة الإنجليزية في الجانب العلمي بل وتعدت هذه الهيمنة إلى بعض الجوانب الاجتماعيه فحتى في الحصول على وظيفة يشترط إتقان اللغة الإنجليزية كما أننا صرنا ننظر للشخص الذي لا يتكلم الإنجليزية نظرة قصور مهما كان مثقفاً ، كما برزت ظاهرة التبعية الثقافية عن طريق التبعية اللغوية فأصبح خلط اللغة أثناء الحديث بالمصطلحات الأجنبية دليل على ارتفاع المستوى الدراسي والثقافي كذلك. قد يرى البعض في مصطلح الهيمنة اللغوية مصطلحاً مبالغاً فيه فمن المنطق النظر إلى الحضارة الإنسانية كحضارة واحدة بغض النظر عن منشئها ولغتها فلا ضير في هيمنة أي لغة وانتشارها إذا رافق ذلك تطور حضاري وثقافي نتيجة العلوم والمعارف التي تنتقل بواسطتها فعلى سبيل المثال دول الاتحاد الأوروبي لم تحترز من حدوث أي هيمنة لغوية بينها رغم اختلاف لغة كل بلد منها عن الآخر بل رأت في هذا التنوع اللغوي عائق أمام وحدتها وتحقيق نموذجها الإقتصادي الذي تطمح إليه، لذلك ينفق الاتحاد الأوروبي حوالي مليار يورو سنويا في مجال الترجمة لمواجه هذا التعدد اللغوي داخله. من خلال ما سبق نستنتج أن الهيمنة اللغوية ليست هيمنة مجردة بل هي نتيجة للتقدم العلمي والحضاري وأكبر دليل على ذلك أنه عند ازدهار الحضارة الإسلامية فيما مضى وتقدمها في علم الفلك سميت العديد من النجوم والأجرام السماوية حينها بأسماء عربية وما زالت حتى اليوم تعرف بأسمائها العربية لدى علماء الفلك في أوروبا وغيرها من بقاع العالم .. لذلك فاللغة لا تهيمن إلا بالعلم وهيمنة العلم لا حدود لها ولا يقف في طريقها شيء.