يكشف إصرار إقليم كاتلونيا الإسباني على المضي قدما نحو الاستفتاء الذي قد يترتب عليه انفصال الإقليم عن الدولة الإسبانية واستقلاله كدولة ذات سيادة على أراضيها عن أن أوروبا تخضع لاتجاهين متناقضين تماما يتمثل أحدهما في النزوع نحو الاتحاد وهو ما ترتب عليه قيام الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تراجع مفهوم الدولة المستقلة ذات السيادة المطلقة على أراضيها، والحرية الكاملة في اتخاذ قرارها، ويتمثل الثاني في النزوع نحو الاستقلال وتكريس مفهوم الدولة ذات السيادة حتى أصبح ذلك النزوع موجها لخيارات أقاليم مرت عليها قرون وهي تشكل جزءا من دولة واحدة حتى وإن كانت تتمتع بشيء من الاستقلال الذاتي داخل وحدة الدولة التي تشكل قاعدة وقائدة للأقاليم المكونة لها. ولم يكن للنزعات الانفصالية في بعض الأقاليم، وإقليم كتالونيا نموذج لها، أن تتبلور من دون أن تكون أوروبا قد مضت شوطا كبيرا في عملية الاندماج الذي ولد الاتحاد الأوروبي حتى تكاد النزعة الانفصالية أن تكون ردة فعل لهذه الوحدة التي أخذت أوروبا بها وكلفت كثيرا من دول أوروبا الكثير من الخسائر وعلى رأسها دول الجنوب كإسبانيا والبرتغال واليونان وهي الدول التي دفعت ضريبة التفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي فانتهت إلى الفقر ووقفت على حافة الإفلاس. ما انتهت إليه إسبانيا من تراجع في اقتصادها وانتشار للبطالة مقابل ارتفاع تكلفة المعيشة وتدني مستوى الدخل الفردي أشعر أقاليمها، وبالذات إقليم كتالونيا الذي كان أكثر أقاليمها غنى أن الحكوكة المركزية قد قادت بانضمامها للاتحاد الأوروبي إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، في الوقت الذي تعتقد فيه تلك الأقاليم أن بإمكانها فيما لو كانت تملك قرارها أن تذهل الاتحاد الأوروبي بشروط تضمن ألا تعرضها للانهيار. أوروبا تدفع ثمن اتحادها ومفهوم الدولة المركزية ذات السيادة يتآكل من طرفيه مرة على يد النزعة التي اتجهت بها إلى الاتحاد ومرة أخرى على يد النزعة التي تتولد عنها تطلعات الأقاليم إلى الانفصال وبين النزعتين تكتب أوروبا صفحات جديدة في تاريخها السياسي المعاصر.