نزعة الانفصال في القارة الأوروبية لو جاءت في أزمنة ما قبل الثورة العلمية والنهضة التي قادتها وأعطتها للعالم كله، لاعتبرت موضوعية، لكن أن تأتي في زمن الاتحاد، والتكامل الاقتصادي وخلق كتلة كبرى في مواجهة الأقطاب أمريكا والصين والهند، فإنها جزء من أزمة وجود، حيث إن الدعوات لم تكن جديدة في إيرلندا بالمناداة بالانفصال عن بريطانيا، ولا اسكتلندا التصويت على بقائها من عدمه في الدولة البريطانية بعد عامين، ثم الحالة الأسبانية مع الباسك والكتلونيين في المناداة بتحقيق دولتي الإقليمين، وقد سبق للشمال الإيطالي الدعوة لتشكيل دولته الخارجة عن الدولة الأم، وحتى الاتحاد الأوروبي لم يغلق النزاع بين اسبانيا وبريطانيا على جبل طارق.. لاحقاً بدأت بلجيكا تزحف عليها نزعة التقطيع والاستقلال، وهي الدولة التي تحوي عدة أعراق وقوميات وتتكلم عدة لغات، وهذه الظاهرة، هل أصبحت صداعاً فجرته الأزمة الاقتصادية الجديدة، لتكون الأقاليم الأكثر ثراء تريد أن تحصل على امتيازاتها الخاصة وتتمتع بها، أم أنها ولدت بمفهوم جديد لا تحكمها دولة مركزية، وإنما ما يشبه الولاياتالمتحدةالأمريكية كنموذج يقبل التطبيق على أوروبا؟ هذه الدعوات قد تكون فشلاً ذريعاً للرأسمالية التي طالما ظلت مرتكز القوة في احتكار ثروات الشعوب وتحويلها صناعات لأسواقهم مما خلق ازدهاراً أوروبياً ظل مهيمناً طيلة القرون الماضية، إلى أن جاءت أمريكا لتبدأ بتقزيم دور القارة ووضعها تحت وصايتها العسكرية والسياسية، وهذا ما خلق نزعة أن الأقاليم الأكثر ثراءً ليست ملزمة أن تكون الداعم لمن هم دونها في الأداء والإنتاج والثروات.. لقد ظلت ثقافة الانفصال عربية بحكم المكون الاجتماعي والذي حكمته العشيرة والقبيلة، والذي أنشأ في ظل الدول الحديثة نزعة الطائفة والمذهب وحقوق بقية القوميات، وهي قضية رافقت تدني الوعي والنظم السياسية غير الديموقراطية، لكن أوروبا التي تتمتع بكل هذه المؤهلات، بدأت تتجه للتجزئة والانفصال أي أن الموانع لم تستطع أن تبقي على وحدة الدولة الوطنية، أو القومية بنظمها ودساتيرها التي تكفل للجميع الحقوق، والمساواة، وإذا ما سرت هذه النزعة على أجزاء من دول العالم، فقد يتم تفكيك امبراطوريات عظمى أسوة بما حدث لبريطانيا الاستعمارية، والمحير أن الاتحاد السوفييتي الذي ولدت فيه نزعة التفكك من خلال نظامه الايدلوجي والتسلطي الذي عجز عن دمج الشعوب والقوميات برابط اتحادي ديموقراطي، يختلف عن البلدان الأوروبية ذات العراقة بنظمها المتطورة، والمختلفة عن أي نظم أخرى، ومع ذلك فالسبب الاقتصادي طغى على الجانب السياسي، فصارت الدعوات للاستقلال جزءاً من نزعة جديدة تقودها طبقات واعية ولكنها إقليمية بوطنية محددة..