محافظ أبو عريش يدشن فعاليات أسبوع البيئة    وزير الدفاع يحتفي بخريجي كلية الملك فهد البحرية    تعاون "سعودي – موريتاني" بالطاقة المتجدِّدة    تراجع طفيف بأسعار النفط عالمياً    تحويل الدراسة عن بُعد بوادي الدواسر ونجران    97 % رضا المستفيدين من الخدمات العدلية    أمطار الطائف.. عروق الأودية تنبض بالحياة    "هورايزن" يحصد جائزة "هيرميز" الدولية    استمرار التوقعات بهطول الأمطار على كافة مناطق السعودية    افتتاح معرض عسير للعقار والبناء والمنتجات التمويلية    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    الخريف: نطور رأس المال البشري ونستفيد من التكنولوجيا في تمكين الشباب    أخفوا 200 مليون ريال.. «التستر» وغسل الأموال يُطيحان بمقيم و3 مواطنين    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    (ينتظرون سقوطك يازعيم)    في الجولة 30 من دوري" يلو".. القادسية يستقبل القيصومة.. والبكيرية يلتقي الجبلين    بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي.. إنشاء" مركز مستقبل الفضاء" في المملكة    أمير الشرقية يدشن فعاليات منتدى التكامل اللوجستي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يحضر احتفالية اليوبيل الذهبي للبنك الإسلامي    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    دعوة عربية لفتح تحقيق دولي في جرائم إسرائيل في المستشفيات    «ماسنجر» تتيح إرسال الصور بجودة عالية    «الكنّة».. الحد الفاصل بين الربيع والصيف    توعية للوقاية من المخدرات    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    اختلاف فصيلة الدم بين الزوجين (2)    قمة مبكرة تجمع الهلال والأهلي .. في بطولة النخبة    تمت تجربته على 1,100 مريض.. لقاح نوعي ضد سرطان الجلد    إنقاص وزن شاب ينتهي بمأساة    العشق بين جميل الحجيلان والمايكروفون!    الفراشات تكتشف تغيّر المناخ    اجتماع تنسيقي لدعم جهود تنفيذ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !    السابعة اتحادية..    دوري السيدات.. نجاحات واقتراحات    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (37) من طلبة كلية الملك فهد البحرية    ولي العهد يستقبل وزير الخارجية البريطاني    دافوس الرياض وكسر معادلة القوة مقابل الحق        اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    دولة ملهمة    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الرياض للدراسات» منارة علمية عربية تشخّص الأزمات وترفد صناع القرار بالأفكار والحلول

يُعد البحث العلمي أو الدراسات الاستراتيجية من أهم النشاطات التي مارسها عقل الإنسان، فتقدم الأمم ونهضتها مرهونان بالاهتمام بالبحوث وتطبيقاته ومؤسساته وأدواته، كالجامعات ومراكز البحوث والدراسات، لما لها من دور أساسي في عملية صنع القرار، وإعداد السياسات العامة للدول.
فهذه المراكز مصدر لإنتاج الأفكار وليس مستودعاً لتجميع المعلومات، وقبل أن تكون إنتاجاً معرفياً، هي منجز حضاري يعكس اهتمام الدول بالعلم واستشراف آفاق المستقبل، وحفظ التراث والمنجزات.
كما أضحت هذه المراكز فاعلاً أساسياً في صنع قرار الدول وسياساتها العامة والإنتاج الفكري والبحث العلمي، خصوصاً في الغرب.
لذلك تسعى هذه الدراسة إلى بيان أهمية هذه المراكز ودورها في مسيرة الأمم ورسم سياسات الدول، وتقديم تحليل دقيق لأهم المعوقات والتحديات التي تواجهها، وكيف يمكن أن نجعل من مركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية مصنعاً للأفكار، ومصدراً للمعلومات، ورافداً للسياسات، وليس مجرد عنوان دون مضمون، وجهداً دون ثمار.
* رسمت رؤية 2030 مساراً جديداً لتأسيس مراكز البحوث لإيمانها بأهميتها في نهضة الأمم
أهمية الدراسة:
تتضح أهمية هذه الدراسة في تزويد المهتمين وأصحاب القرار بمادة علمية من خلال تسليط الضوء على دور مراكز البحوث والدراسات تاريخياً، ونشأتها، وماهيتها، وكيفية تأثيرها في عملية صياغة السياسات وصنع القرار على المستوى العالمي، وتحقيق الأهداف التي تسعى الدول العربية إلى تحقيقها بأقل التكاليف، وعلى أكبر قدر من النتائج الناجحة، ثم القيام بوضع الخطط والبدائل الممكنة لتحقيق الأهداف المنشودة دون خطأ.
وكذلك تساعد المراكز البحثية الدول العربية في فهم التاريخ، وكيفية التعامل مع الحاضر، ووضع الخطط تحسباً للمستقبل، خصوصاً أن الدول العربية قد أدركت أهمية الدور الذي تلعبه المراكز البحثية في نشر الوعي بين أفراد المجتمع، وكذلك رسم السياسات العامة للدول، فضلاً عن تعريف الدول العربية بدورها في الارتقاء بمراكز البحوث والدراسات.
* الحرب الباردة شكَّلت منعطفاً تاريخيّاً لمراكز الدراسات عالميّاً في رسم السياسات
حدود الدراسة:
أ. الإطار الزماني:
زادت دول العالم من إنفاقها على المراكز البحثية عبر التاريخ، وتحديداً منذ العصر العباسي، وبدأ الاهتمام بها بشكل كبير منذ بداية القرن العشرين.
مؤخراً، ونتيجة للأهداف التي تتحقق بصورة سريعة وناجحة من خلال عمل البحوث والدراسات بدأت الدول في إنفاق الأموال على بناء المراكز البحثية بهدف تحقيق الأهداف المرجوة لكل دولة بسهولة ونجاح.
وتبيّن هذه الدراسة الأهمية الكبيرة والملحة للمراكز البحثية في وقتنا الراهن، والذي تتخذ فيه دول العالم ومنها العربية قرارات حاسمة وسريعة نتيجة تعاونها مع المراكز البحثية.
وتتمحور هذه الدراسة في المدة ما بين بداية القرن العشرين حتى يومنا هذا، لدراسة أهمية المراكز البحثية لإسناد اتخاذ القرارات وآخر المستجدات بالتعاون معها.
ب. الإطار المكاني:
إن هذه الدراسة تقوم على توضيح أهمية الدور الذي تلعبه مراكز البحوث والدراسات في العالم بشكل عام، وفي الوطن العربي علي وجه الخصوص، ومنها مركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية، وكيفية وضع المراكز الإستراتيجيات التي تتحكم في السياسة الخارجية للدول.
ج. الإطار الموضوعي:
تتناول الدراسة الدور الذي تقوم به المراكز البحثية في تشكيل السياسة الخارجية للدول، وتحدد أولويات الدولة وتوجهاتها في مرحلة معينة، وبالتالي وضع الخطط والإستراتيجيات المناسبة.
لذلك سنتتطرق في هذه الدراسة إلى أهمية التخطيط الإستراتيجي كشرط رئيس في تحقيق الأهداف المرجوة، وأيضاً دور الدول في الارتقاء بالمراكز البحثية وتطويرها، والسماح لها بممارسة دور المستشار للدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى.
ونتعرّف أيضاً على تاريخ المراكز البحثية ودورها في عمليات التخطيط الإستراتيجي، لتحقيق أهداف الدول مهما كانت صعوبة تنفيذها.
أولاً: مفهوم مراكز الدراسات
لا يزال تعريف مراكز البحوث والدراسات محل خلاف ويحيطه الغموض، لا سيما أن الكثير من هذه المراكز المنتمية إلى مجال البحث لا تعد نفسها من صنف «Tink Tank»، في وثائق تعريف الهوية الذاتية، وإنما تعلن عن نفسها كمؤسسة غير حكومية أو مؤسسة غير ربحية. لذلك، يبقى هذا المفهوم فضفاضاً، ويحتمل أكثر من تعريف؛ بسبب كثرة التفاصيل التي تحيط به.
وعلى الرغم من هذه الإشكالية إلاّ أن ثمة تعريفات لها نحاول أن نعرض بعضاً منها. فتعرفها موسوعة (Wikipedia- Free Encyclopedia) بأنها «أيّ منظمة أو مؤسسة تدعي أنها مركز للأبحاث والدراسات، أو مركز للتحليلات حول المسائل العامة والمهمة». وتعرّفها مؤسسة راند للأبحاث بأنها «تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة، وهي تقدم الحلول والمقترحات للمشكلات بصورة عامة، وخصوصاً في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية، أو ما يتعلق بالتسلح».(1) (2)
كما يعرّفها هوارد ج وياردا، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجيا، وأستاذ باحث في مركز (ودورو ويلسون) في واشنطن، بأنها عبارة عن «مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تقدم مساقات دراسية، بل هي مؤسسات غير ربحية، وإن كانت تملك منتجاً وهو الأبحاث، هدفها الرئيس البحث في السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعال في مناقشة تلك السياسات، كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع والأمن والخارجية، كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل، بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها».(3)
وينتهي هوارد بالقول: «إن هذه المراكز، هي مؤسسات بحثية هدفها الأساسي توفير البحوث والدراسات المتعلقة بالمجتمع والسياسات العامة، والتأثير في القضايا الساخنة التي تهم الناس».(4)
وعلى الرغم من غياب الإجماع على تحديد مفهوم مراكز البحوث والدراسات، فإن هذه المراكز تستخدم مصطلح «مراكز البحوث والدراسات» باعتباره مرادفاً لمصطلح مراكز الفكر «Think Tanks»، (5) وتعني بهذا المصطلح: مؤسسات بحثية، دورها الرئيس هو إنتاج الأبحاث والدراسات في مجالات متعددة، بما يخدم السياسات العامة للدولة، وتقديم رؤى مستقبلية تهم الفرد والمجتمع وصانعي القرار.(6)
ونجد أن كل التعريفات المقدمة أعلاه تشترك في أن مراكز البحوث والدراسات مخصصة للقيام بالبحوث والدراسات في مجالات معينة أو في مجالات متنوعة، سواء تقديم المقترحات والحلول لمشكلات معينة، وذلك من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها، كالمؤتمرات التي تعقدها، والبحوث والإصدارات الدورية والكتب التي تصدر عنها، إضافة إلى تقديم المشورة لصانعي القرار مع اقتراح البدائل.
ثانياً: نشأة وتطور مراكز الدراسات
تهتم الدراسة في تتبع النشأة التاريخية لمراكز الأبحاث والدراسات، ومعرفة وظائفها وخصائصها، وصولاً للتعرف على حالها في العالم العربي ليس لغايات المقارنة، وإنما الوقوف على أهمية دورها بالنسبة للمجتمعات وصانعي القرار.
تعود جذور مراكز البحوث إلى أول مركز علمي في العصر العباسي الأول، ألا وهو (بيت الحكمة) الذي شُيّد بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد، وذلك كنواة لمركز أبحاث كان في آنه ومكانه قفزةً نوعيةً في العلم والفكر، وعمل الأبحاث العلمية الطبية والفلسفية، فضلاً عن الترجمة ونقل علوم وأفكار وثقافات الحضارات السابقة والمعاصرة إلى اللغة العربية.
ثم شهدت مرحلةُ ما بعد الرشيد تطوراً أكبر في بيت الحكمة، كما تُبيّن ذلك كتب التاريخ.(7)
ولكن النشأة الحديثة لمراكز البحوث والدراسات فتعود إلى بداية نشوء الجامعات الأوربية في القرن الثاني عشر، حيث ظهرت الكراسي العلمية والتي كانت الأساس والنواة لظهور المراكز البحثية.
وكان الغرض من نشوء هذه المراكز إنتاج الأفكار لأصحاب القرار، وتناول الموضوعات العلمية، ولكن دور المراكز قد تطور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، حيث أنشئت مراكز بحوث مستقلة عن الجامعات لخدمة السياسة، وكانت باكورة هذا التوجه تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية ببريطانيا عام 1831م، والجمعية الغابية عام 1884م، وفي الولايات المتحدة معهد كارنيغي للسلام الدولي عام 1910م، ومعهد بروكينغز عام 1916م، ومعهد هوفر عام 1919م، ومؤسسة القرن عام 1919م، ومجلس العلاقات الخارجية عام 1921م، المكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد عام 1920م، وغيرها من المراكز البحثية، وفي بريطانيا المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1920م، وفي فرنسا المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وفي ألمانيا الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931م.(8)
كما نشأت مراكز بحثية خاصة تُعنى باستطلاعات الرأي مثل (معهد غالوب) الذي تأسس عام 1920م في الولايات المتحدة.
ونلحظ في هذه الحقبة أن معظم المراكز لم تستطع أن تؤثر بشكل مباشر في صانعي السياسات العامة، وكان يُنظر لها كمؤسسات نظرية بعيدة عن التأثير في السياسات الوطنية أو الدولية، وإن كان تأثيرها بشكل غير مباشر من خلال صياغة مواقف الرأي العام.(9)
و في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تطور واقع مراكز الدراسات بشكل كبير سواء من حيث الزيادة الكبيرة في عددها، أو من حيث انتشارها في دول العالم.. وأشهر هذه المراكز التي تأسست في هذه الحقبة، المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن عام 1958م، وفي الولايات المتحدة معهد دراسات الشرق الأوسط عام 1948م، ومعهد انتربرايز عام 1943م، ومؤسسة راند عام 1948م، ومركز أبحاث فض النزاعات عام 1959م في جامعة ميتشغان، وفي النرويج أسس معهد أبحاث السلام الدولي عام 1959م، وفي السويد معهد استوكهولم لأبحاث السلام عام 1966م، وغيرها من المراكز البحثية في الدول الأوروبية.(10)
أمّا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تطورت اهتماماتها البحثية، وأصبحت مراكز الأبحاث والدراسات ومراكز استطلاعات الرأي تملك في الدول الديمقراطية تأثيراً ونفوذاً واضحاً في التأثير على صناع القرار وصياغة السياسات العامة سواء على الصعيد الوطني والسياسات الخارجية للدول15.
أما في مرحلة السبعينات و حتى نهاية القرن الحادي والعشرين، فانتشر وجود هذه المراكز البحثية في جميع مناطق العالم و ازداد نفوذها، وتنوعت طبيعة اختصاصاتها ومجالاتها البحثية، لذلك نجد أن أغلب نظريات السياسة الأميركية قد بلورتها مراكز البحوث الاستراتيجة.
ووصل عدد مراكز البحوث والدراسات في العالم حتى نهاية القرن العشرين إلى 6480 مركزاً بحثياً متخصصاً في مجال السياسات العامة.
الجدول(1)، إعداد، د. سامي الخزندار، د. طارق الأسعد، دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، الجامعة الهاشمية، الأردن.
كما وصل عدد مراكز البحوث والدراسات في العالم حتى نهاية عام 2020م إلى 11٫175 مركزاً بحثياً متخصصاً في مجال السياسات العامة، حتى أصبح بعضها يسمى بالمراصد الفكرية وهي التي توجه العالم الآن.
الجدول(2)
الجدول(3)
ودخلت مراكز الدراسات والأبحاث، في محور الاهتمام العربي في بداية في عام 1952م، عندما أسست جامعة الدول العربية معهد البحوث والدراسات العربية، والذي تحوّل لاحقاً إلى التركيز على الأداء التدريسي والتأهيل الجامعي على حساب العمل البحثي.
* "الرياض للدراسات" يتحلى بنهج حيادي ومستقل ويتخذ من الموضوعية طريقاً لتكون ثمرة جهوده سياسات قابلة للتطبيق
وفي مصر، أُسس المركز القومي للبحوث عام 1956م، بالإضافة إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1968م، وهما يرتبطان بهيئات حكومية، وعلى صعيد المراكز البحثية الخاصة كان مركز دراسات الوحدة العربية الذي تأسس في بيروت عام 1975م كمؤسسة أكاديمية بحثية غير ربحية.
ومنذ عقد الثمانينات الميلادية لغاية اليوم انتشرت ظاهرة المراكز البحثية في جميع الدول العربية، والمملكة العربية السعودية، كغيرها من الدول العربية، عانت سابقاً من قلة مراكز البحوث والدراسات لأسباب عديدة، إلاّ أن «رؤية السعودية 2030» التي تهدف إلى التنمية الشاملة على المستويات كافة، ساهمت في إيجاد توجه حكومي جديد لتسهيل إصدار التراخيص لإنشاء مراكز الدراسات الخاصة.
كما ترى الرؤية أن مراكز الدراسات من القضايا الوطنية الحيوية والمهمة التي تعكس اهتمام الدول بالمعرفة والتقدم واستشراف المستقبل، وكذلك تسلط الضوء على ضرورات المشهد العربي الراهن وآفاقه وتحدياته الجسيمة، التي لن يتسنى الحصول عليها دون دراسات وبحوث جادة تكون أدواتها هذه المراكز.
ونجد في هذا الخصوص أن قيمة الدراسات والبحوث التي ينتجها مركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية تكمن في حياديتها واستقلاليتها ومهنيتها، وتراعي العلمية والدقة والموضوعية، وذلك لربطها بالتوجهات والخطط الاستراتيجية للمملكة، إضافة إلى احتضان واستقطاب الكفاءات العلمية البحثية، ومد جسور التواصل مع المراكز المماثلة الوطنية والعربية الدولية.
ولا شك في أن دور مراكز الدراسات في العالم العربي بشكل عام يتقاطع في أجزاء منه مع بعض الأدوار المتعارف عليها لمراكز الأبحاث في العالم الغربي، وتختلف كلياً في أدوار أخرى، إلاّ أن مراكز الأبحاث الخاصة في العالم العربي لا تملك بشكل عام التأثير والدور نفسه الذي تلعبه مراكز الأبحاث الخاصة الغربية في إعداد السياسات العامة أو خدمة البحث العلمي.. بينما دورها أخذ يعيش حالة من التطور والنمو سواء من حيث الانتشار أو من حيث التأثير، ولكن ما زال الأمر في مراحل غير متقدمة.
ويعبر عن هذا التطور واقع رئيس سابق لإحدى الجمهوريات العربية: «أنه عندما كان لا يزال رئيساً كان لا يقيم أي اعتبار لمراكز الدراسات ولا للباحثين، وكان يظن أن المسؤول أقدر على الإلمام بشؤون المهام الملقاة على عاتقه، لأنه يعايشها بشكل محسوس وملموس يومياً، بينما الباحث لا يجيد إلا «التنظير» وحبك الجمل وتعقيد الأفكار.... ولكن وبعد أن أصبح خارج السلطة أيقن أهمية وجود مراكز بحثية، فبدأ يروج لهذه القناعة لدى معارفه ممن ما زالوا في مواقع القرار في الوطن العربي».(11)
ومن خلال هذا المثال يتضح لنا أن مراكز البحوث والدراسات، قد تتشكل أحياناً نتيجة لأحداث مهمة في تاريخ دولة ما، أو بسبب قضايا طارئة أدت إلى البحث عن حلول أفضل.
ولذلك تعدُّ هذه المراكز، في مطلع القرن الحادي والعشرين، مخازن الفكر والتخطيط الاستراتيجي، ولا وجود لنهضة حقيقية لأي دولة دون إعطاء هذه المراكز قيمتها من الاهتمام، وتوفر الحد الأدنى من الشروط اللازمة لنجاحها.
وأيضاً هي ليست مجرد مراكز لتجميع المعلومات، ولكنها مراكز لإنتاج الأفكار، ولأجل ذلك وجدت، لتعمل، وتنتج، وتوجد الحلول، لا لتكون مجرد ديكور أو تحمل مسميات فخرية دون أن يكون لها أثر فاعل على أرض الواقع.(12)
ويتّضح أن الدول العربية قد أدركت أن المراكز البحثية لم تعد ديكوراً تتزين به المجتمعات، إنما أصبحت أحد أهم أسلحة العصر.
الجدول(4)
عموماً، فرضت مراكز الدراسات العربية في وقتنا الحاضر وجودها مع اتساع انتشارها، وتنوع أنشطتها، وتطور علاقاتها مع أصحاب القرار، وإمدادهم ووسائل الإعلام بتحليلات ودراسات تتعلق بكل القضايا المهمة، وتحديد الأولويات التي تواجه الدولة، والمسارات التي يجب أن تسلكها الدولة في تعاملها مع هذه القضايا.(13)
ثالثاً: مهام المراكز البحثية
بعد سرد أهم مراحل التطور التاريخي لمراكز البحوث والدراسات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، لا بد من الوقوف على أهم مهامها، والتي يمكن إجمالها بالآتي:
أ. وضوح الهدف والمهمة التي تقوم بها المراكز البحثية، بحيث تكون متخصصة في مجال معين، أو تقوم بكل التخصصات.
ب. توفير المراكز البحثية مجموعة منتقاة من الباحثين والأكاديميين والمفكرين الاستراتيجيين ممن يجمعون بين الخبرة العلمية والعملية.
مراكز الدراسات العربية الفاعلة بوصلة لاستقراء التاريخ وفَهْم الحاضر والاستعداد للمستقبل
ج. تؤدي مراكز البحوث والدراسات وظائف الإنذار المبكر، من خلال اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، والتهيؤ لمواجهتها.
د. توفر قيادة واعية ومدركة للمهمة الملقاة على عاتق المركز، وتستطيع الاستفادة من كافة الجهود والعقول.
ه. إقامة علاقات واسعة مع مراكز البحوث العالمية لتبادل الخبرات.
و. إجراء البحوث والدراسات الآنية والمستقبلية حول تحليل المشكلات التي تواجه السياسات العامة، وتقديم الاستشارات لصناع القرار حول قضايا معينة، من حيث تشخيص الأزمات وتحليلها واقتراح السياسات والحلول المناسبة للتعامل معها، وتحجيم احتمالية المخاطر، وتقديم الأفكار العلمية والإبداعية.
ز. القيام بمهمة إرسال رسائل سياسية فورية بأمر من صناع القرار، كإشارات دبلوماسية استباقية وغير مباشرة، إلى طرف معين حول أزمات سياسية أو قضايا جدلية.
ح. تقديم المبادرات والسياسات العامة لوسائل الإعلام المختلفة، وتسهيل فهم استيعاب الجمهور لها.
ط. عقد الندوات والمؤتمرات وورش العمل، ودعوة شخصيات مهمة من الداخل والخارج للمشاركة فيها.
ي. ترجمة الدراسات والمؤلفات المهمة التي تصدر عن المراكز البحثية، وذلك بلغات متعددة لتصل الرسالة إلى الآخرين، وتعم الفائدة.
رابعاً: دور مراكز الدراسات وتأثيرها في صنع السياسات
تنامى الاهتمام بمراكز البحوث والدراسات الغربية، واتسعت دائرة نشاطاتها من حيث الحجم الكمي ونوعيّة المساهمات التي تقدمها، حتى أصبحت جزءاً من المرتكزات الثقافية في دولها، وبحثت في مختلف شؤون الحياة المحلية والدولية، غير أن دور المراكز البحثية العربية، لم ترتقِ لما هو عليه الأمر في الغرب، وذلك بسبب المعوقات والتحديات التي تواجهها، كما بدا دور بعضها باهتاً وغير فاعل بسبب بُعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في الغرب.
ويتضح أن مراكز البحوث والدراسات تكتسب أهميتها من الحاجة لها، في المقتضيات السياسية والاقتصادية والإعلامية والتنموية وغيرها، وذلك من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وإقامة ندوات متخصصة تساهم في رفع مستوى الوعي لدى صانع القرار.
كما تلعب المراكز دوراً ريادياً في إنتاج العديد من المشروعات الحيوية التي تتصل بالدولة والمجتمع والفرد، ودراسة كل ما يتصل بها وفق منهج علمي معرفي، وتعكس اهتمام الشعوب بالعلم والمعرفة والتقدم الحضاري واستشراف آفاق المستقبل، وتسلط الضوء على ضرورات المشهد الراهن، مما يفرض على دولها تفكيراً معمقاً في خصوصياته وآفاقه وتحدياته الجسيمة.
فيجب أن لا يكون تقييم دور مراكز الأبحاث في الدولة بعدد مراكز الأبحاث الذي قد يكون مؤشراً على الاهتمام بمخرجات البحث العلمي، وإنما يكون التقييم بناءً على تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه المراكز ودورها في تحقيق مصالح الدولة والمجتمع.(14)
والواقع أن السبب في التركيز على نوعية البحوث هو لتوثيق الصلة بين المراكز البحثية وبين مراكز الإنتاج، فقد قطعت الدول المتقدمة أشواطاً في سبيل نقل التقنية من مراكز البحوث الى القطاع الصناعي ووضعت ذلك في مقدمة أولوياتها، وإن كانت البلدان العربية قد أدركت أهمية هذه الصلة، إلا أن النجاحات المتحققة ضئيلة مقارنة بالت.عاون الملحوظ بين هذه المراكز ومؤسسات التنمية الاجتماعية والاقتصادية.(15)
وعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول مفاهيم مراكز البحوث والدراسات، إلا أن ذلك لن يؤثر على أهميتها، حيث وصفت بأنها خزانات للأفكار أو مصانع للأدمغة، والملحوظ أن النواة الأولى لكثير من السياسات الداخلية والخارجية التي تتبناها الدول هي عبارة عن نتاجات هذه المراكز، كما أن كثيراً من الدول الصغيرة قد برزت وأخذت مكانتها اقتصادياً على الخارطة العالمية بسبب تبنيها لمراكز بحثية وتأثرها بنتاجاتها.(16)
وبناءً على ذلك فإن مراكز البحوث لا يقتصر عملها على إعداد الدراسات فقط، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى معالجة المشكلات وتقديم المشورة واقتراح البدائل.
ويرتبط بهذا الدور المهم للمراكز البحثية دور الجامعات التي تضم هذه المراكز ضمن هيكلها العلمي، وتأتي هذه الأهمية من جانبين ، الأول أن اهتمام الجامعة بالواقع التنموي للمجتمع يدل على صدق رسالتها، الثاني أن دور الجامعة لم يعد قاصراً على التعليم والتربية، وإنما امتد ليشمل المشاركة في حل كثير من مشكلات المجتمع التي تعيش في كنفه وتساير آماله وطموحاته، وتقديم المشورة والرأي لأجهزة الدولة وبالشكل الذي تمكنها من أداء عملها.(17)
وأجمع العديد من الباحثين على أن الدور الرئيس لهذه المراكز يتمثل في عملية صناعة المعرفة، والتي تتضمن أدواراً رئيسة على النحو التالي:
أ. تحليل الواقع، وتقديم رؤى مستقبلية من أجل النهوض بالواقع وفق مرجعيات أكاديمية واستراتيجية، وبعيداً عن الارتجال.
ب. توليد الأفكار والرؤى الجديدة والسعي لتحقيها، وإطلاق الخيال في الصور المحتملة للمواقف والمخاطر والسياسات والحلول لدرء المخاطر واستغلال الفرص.
المراكز العربية عامةً لم تنلْ مكانها الحقيقي في المشاركة بصنع القرار، والتمويل أبرز التحديات التي تواجهها
ج. نشر الأفكار وترويجها لدى الرأي العام لاطلاعهم على ما وصل إليه العالم من نتائج وتطورات بهدف تنوير المجتمع وتبصيره.
د. تقديم الاستراتيجيات المبنية على أسس علمية لأصحاب الشأن؛ من أجل اتخاذ القرارات على أسس مدروسة.
ه. تحديد الأولويات واقتراح البدائل والخيارات والحلول المختلفة لحل مشكة ما.
وهنا نشير إلى أهمية استفادة أصحاب القرار من الدراسات التي يقدمها الباحثون لتدعيم وتقوية كثير من الجوانب التي تكون الدولة بحاجة لها في تنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى.
كما ليست العبرة أن نؤسس مراكز بحثية تتراكم فيها البحوث المعرفية على الرفوف والمكتبات من دون تواصل حي وحقيقي مع أصحاب القرار والمجتمع.
كما أجمع العديد من الباحثين على أن ثمة خطوات مهمة يجب اعتمادها إذا ما أُريد لمراكز البحوث والدراسات العربية تفعيل دورها ومواكبة حركة البحث والتطور العلمي في العالم، وهى كالآتي: (18)
أ. القناعة بدور مراكز البحوث والدراسات يعد عاملاً أساسياً في استمرار عملها.
ب. استقلالية مراكز البحوث والدراسات في قراراتها ونتائج أبحاثها، أما في ظل غياب حرية العمل، فإن هذه المراكز تبقى مقيدة الحركة والإمكانات، وتظل نتائجها هامشية وغير مجدية علمياً.
ج. توفر قاعدة البيانات المتكاملة التي تقتضيها البحوث، وبخلافه ستكون النتائج مشوهة وبعيدة عن جوهر الموضوع المراد البحث عنه.
د. ضرورة وجود الطلب على منتجاتها، وإلاّ ستكون أمام مخاطر مغادرة ساحة البحث العلمي.
ه. تعتمد مراكز البحوث والدراسات في عملها على مدى قدرتها في استقطاب الكفاءات العلمية البحثية، فبقدر امتلاكها للكفاءات العلمية يتحدد أفق البحث العلمي وطبيعة نتائجه.
و. يجب على الجهات الوطنية الاضطلاع بدورها من خلال تقديم الدعم المادي لمراكز البحوث والدراسات، حتى تحافظ على هويتها العلمية.
لذلك لا بدّ من تشجيع التمويل الوطني لهذه المراكز، لدعم مسيرتها العلمية، وتحقيق المنافع المتبادلة، وبالتالي تحقيق النفع العام.
أما من جانب تأثير مراكز البحوث والدراسات على صناع القرار، فإنها تمارس دورها بالمساهمة في صياغة السياسات العامة من خلال عدّة أشكال، منها ما هو مباشر، ومنها ما هو غير مباشر، ويمكن تلخيصها بما يلي:(19)
أ. الأنشطة العلمية التفاعلية: هذا النوع من الأنشطة يتمثل في عقد المؤتمرات أو الندوات وورش العمل حول قضايا تقع ضمن اهتمام المسؤولين وصناع القرار، وهذا النوع من الأنشطة يكون عادة ثري بالنقد من جهة، وبتوليد الأفكار من جهة أخرى.
ب. الحلقات البحثية: وتدخل ضمن الأنشطة البحثية التفاعلية، وعادة تكون بين كبار المسؤولين مع فريق من الباحثين المكلفين بإعداد دراسات معينة أو إعداد سياسات عامة.
ج. وسائل الإعلام: عادة ما تستقطب أو تستضيف وسائل الإعلام، خصوصاً الفضائيات التلفزيونية والصحافة، الباحثين والخبراء العاملين في مراكز البحوث للاطلاع على آرائهم وتحليلهم العلمي حول القضايا الساخنة، وغالباً تلعب آراؤهم دوراً في صناعة الرأي العام.
توفير الفضاء الرحب والاستقلالية لمراكز البحوث في إصداراتها وقراراتها يجعلها
مجدية علميّاً
د. المشاركة في النشاط العام: إن العديد من الباحثين تتم دعوتهم للمشاركة في لقاءات أو محاضرات وأنشطة عامة، سواء في مؤسسات تعليم جامعية أو في مؤسسات المجتمع المدني، وغالباً ما تشكّل مشاركتهم تسويقياً فاعلاً لآرائهم وأطروحاتهم السياسية أو العلمية.
ه. العلاقات الشخصية: إن الكثير من الباحثين في مراكز البحوث يملكون علاقات مباشرة مع المسؤولين، وهذا ما يسهل من قدرتهم على الإقناع والتأثير ومعرفتهم للمتطلبات.
و. النشر العلمي: إن من ضمن الاهتمامات الأساسية وأولويات مراكز الأبحاث هي النشر العلمي، وهو يشكل المخرجات أو المنتوج الأساسي الذي تستهدفه مراكز الدراسات والأبحاث، وإن النشر العلمي عادة له تأثير على اعتماد الدراسات والكتب والمؤلفات العلمية في عملية التأليف والنشر كجزء من عملية البحث العلمي، بالإضافة إلى الاستفادة من مطبوعات المراكز في العملية التدريسية لطلبة الجامعات في مؤسسات التعليم العالي.
عموماً، إن تأثير مراكز البحوث والدراسات يعتمد على طبيعة البيئة السياسية والاجتماعية والنمط الثقافي وغيرها في العالم العربي، بالإضافة إلى دور الجهة الداعمة والمنفذة للدراسات.
خامساً: التحديات والعوائق
بالرغم من وجود بعض التباينات الوطنية بين الدول العربية فإن هناك مجموعة من التحديات المتشابهة أو المشتركة التي تواجه دور مراكز البحوث والدراسات على الصعيد العربي، سواء في مجال البحث العلمي، أو من خلال المساهمة في صياغة السياسات العامة ودعم اتخاذ القرار العربي الرسمي، وهو ما قد يعيقها عن أداء عملها بالشكل المرضي، وبسبب تلك المصاعب والتحديات، لم تتبوّأ مراكز البحوث العربية مكانها الحقيقي، ولم تمارس دورها الحيوي في المشاركة في صنع القرار، أو في تقديم ما يلزم من مشورة ومن دراسات رصينة.
وحتى بدا دور معظم المراكز البحثية باهتاً وغير فاعل في عملية التنمية المجتمعية بكافة أبعادها، ليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، بل بسبب المعوقات الكثيرة التي تحيط بها، وبُعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في الغرب.(20)
ومن أهم التحديات والعوائق التي تقف ضد النهوض والارتقاء بعمل المؤسسات البحثية العربية ما يلي:
أ. التمويل، حيث تقع قضية التمويل على رأس المعوقات التي تواجه عمل مراكز البحوث والدراسات العربية، وهي مشكلة متعددة الأبعاد، حيث يلعب التمويل المالي دوراً محورياً في سياسات المراكز وتحديد أجندتها البحثية، واختيار نوعية الباحثين.
ومن الضروري إيجاد مصادر تمويل وطنية حتى تقوم المراكز بإجراء العديد من الدراسات والبحوث التي تخدم القضايا الوطنية والعربية، لذلك على الدول العربية أن تقوم بدورها من خلال دعم المراكز البحثية مادياً.
ب. هناك مراكز بحوث تواجه صعوبات تؤثر سلباً على جودة العمل وديموميته، وأحيانًا تكون بيئة طاردة للكفاءات المهنية، لا سيما أن الباحثين يحتاجون إلى بيئة مهيأة من الاستقرار المادي والوظيفي والتفرغ الكامل لأنشطتهم البحثية دون خضوع لوصاية على فكرهم وإنتاجهم.
ج. تعاني بعض مراكز البحوث والدراسات العربية من ضعف الإمكانات التسويقية للإنتاج المعرفي الذي يصدر عنها، عند نشر كتبها، أو مجلاتها الدورية، وهذا يؤثر سلباً على مستوى انتشارها والفائدة المرجوة من أطروحاتها.
كما أن بعضها لا يوجد لديها وضوح في مجال معين للتخصص.
د. إن قيمة البحوث والدراسات التي تنتجها المراكز البحثية، تكمن في استقلاليّتها وموضوعيتها ومهنيتها، والتي لا يمكن تحقّقها إلّا بهامش كبير من الحرية، حتى تكون التجربة البحثية فاعلة وقادرة على المساهمة في التنمية المجتمعية والدولة.
ويُقصد بالحرية اختيار الموضوعات أو تحديد الأجندة البحثية، أو نشر نتائج الدراسات، أو المحافظة على الموضوعية العلمية في الدراسات.
ه. من أكبر التحديات التي تواجه مراكز البحوث على الصعيد العربي هو غياب وجود بيانات علمية عربية حديثة إلكترونية، وبمعايير عالمية، تكون وجهة للمعلومات الرصينة، ومصدراً أساسياً لإعداد البحوث والدراسات العلمية.
و. من التحديات المهمة ضعف الثقة بين المسؤولين في العالم العربي بشكل عام تجاه مراكز البحوث والدراسات العربية، وهذا ناتج أحياناً عن عقدة الأجنبي، فهم يثقون بمراكز البحوث الغربية، بالرغم من أن الكثير منها يعتمد على باحثين عرب في إعداد الدراسات التي تخص العالم العربي.
مخرجات المراكز تقيس نبض الدول.. ونتاجاتها بمنزلة إنذار مبكر
سادساً: نتائج ملموسة
في هذه الدراسة لمسنا بعض النتائج المهمة التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على سير عمل المراكز البحثية في العالم العربي، أو تشكّل صورتها عند صاحب القرار، ومن أهمها:
أ. لا تزال ثمة إدارات في العالم العربي لا تعي قيمة البحث العلمي، وبالتالي لا تعمل جاهدة على تمكينه، وترى أنه ترف فكري وليس هناك داعٍ لإضاعة المال والوقت عليه.
فضعف ثقافة التفكير المنهجي لديها، دفعها إلى الاعتقاد بأنها الأعلم في فهم المهام المسؤولة عنها، وبالتالي لا حاجة لها في الاعتماد على المراكز البحثية التخصصية للتحليل العلمي للقضايا والمشكلات موضع القرار، أو لإعداد السياسات العامة.
بينما غابت عنها أهمية المراكز البحثية في صنع الأدمغة، كونها خزانات للأفكار، والنواة الأولى لكثير من السياسات الداخلية والخارجية التي تتبناها الدول المتقدمة.
ب. من أهم النتائج الملموسة في الدراسة، نجد أن هناك نقصاً واضحاً في تمويل مراكز البحوث - مادياً - من قبل الإدارات المسؤولة في الدول العربية، إضافة إلى عدم تخصيص الميزانيات الكافية لإجراء البحوث بالطرق المناسبة.
لذلك إحجام الدول العربية عن تمويل المراكز البحثية، قد يدفعها إلى التعامل مع مصادر تمويل أجنبية، مما يشكل اختراقًا يخدم أجندة غي وطنية، ويجعل المراكز أسيرة لهذا التمويل.
ج. صعوبة الوصول إلى بعض أوعية المعلومات الرسمية في الإدارات الحكومية في العالم العربي، وعدم تسهيل مهمة الباحث والريبة فيه وبأهدافه، وافتراض أن لديه أجندة خفية، إضافة إلى إحاطة الأرقام والإحصاءات الرسمية بسرية غير مبررة، بدعاوى أنها معلومات أمنية أو سرية.
د. نقص المصادر العلمية العربية والأجنبية المترجمة، حيث يعاني الباحثون من نقص المصادر العلمية، لا سيما الحديثة منها كالكتب والمراجع والمقالات العلمية.
ه. كي يتم تقييم جودة الإنتاج الفكري والأداء المهني لمراكز البحوث والدراسات العربية، لا بد من وجود هيئة علمية عربية مستقلة لقياس أداء ومهنية المراكز، وتعتمد على ثقافات عربية، وتحمل الصفة الإلزامية العلمية فقط، وليست القانونية.
إضافة إلى تقديم جوائز مادية ومعنوية لمراكز الدراسات وباحثيها، تحفز المراكز على الابتكار، والباحثين على الإبداع، حتى تدر هذه المراكز بالنفع لصناع القرار في اتخاذ القرارات المهمة.
سابعاً: التوصيات
لا يقتصر دور المراكز على تمهيد الرؤى السياسية المستقبلية لصانع القرار، بل الارتقاء بالوعي الجمعي للأفراد
لأجل بناء مراكز بحثية مؤسسية متميزة، تحمل هوية واضحة في عملها، وتستفيد من نتاجها الدولة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، ويعوّل عليها في صنع قرارات حاسمة، تحاول الدراسة تقديم عدد من التوصيات بناء على العرض السابق بما يفيد في تطوير مراكز البحوث والدراسات ونمائها، مما ينعكس بشكل إيجابي على صناعة القرار العربي، وهي:
أ. توثيق العلاقات والتقارب بين أصحاب القرار في الدول العربية، وبين المراكز البحثية فيها، وذلك على أساس القناعة بالمراكز، والاعتماده عليها إلى حدّ كبير في رسم السياسات الداخلية والخارجية، حتى لا يكون وجودها هامشياً كاسم دون مضمون، ومنحها الثقة بأنها تساعد في صنع القرار.
وفي المقابل يتحتم على المراكز البحثية تبني قضايا نوعية تهم حياة الناس، وتقدم بحوثاً قابلة للتطبيق بأيسر الطرق وأقل التكاليف، وتحدد الأولويات، وتقدم البدائل من الحلول.
ب. تشجيع الدولة للمراكز البحثية من خلال توفير الدعم المادي لها، وذلك لاستقطاب الباحثين الأكفياء، وتوفير الأبنية الملائمة لها والأجهزة والمختبرات التي تستعين بها، حتى لا تكون مركزاً لتجمع غير الكفوئين، لأن من أكثر المشكلات التي تواجه المراكز البحثية هو التمويل.
ج. تأسيس مؤسسة عربية أو لجنة أكاديمية عربية تهتم بتمويل مراكز البحوث والدراسات في العالم العربي، تقترح البرامج والأجندات سنوياً على مختلف مراكز البحوث العربية، وتشجع على تبادل الخطط السنوية في البحوث والمؤتمرات، للأسهام في بناء تكامل عربي حقيقي، بحيث يدعم كل مركز المركز الآخر في مجاله.
د. إن من أهم مستلزمات إنجاح عمل مراكز البحوث والدراسات هو تواصلها وتعاونها مع المراكز البحثية الأخرى، خصوصاً العربية، ولا سيما المرموقة والمعروفة بنتاجاتها العلمية في مجال التوثيق والنشر.
ه. ينبغي لمراكز البحوث والدراسات العربية مراعاة العلمية والموضوعية، لبناء حالة من الثقة بينها وبين أصحاب القرار والقطاعين العام والخاص، وربطها بمصادر المعلومات الموثقة، باعتبارها خطوطاً أساسية لإنتاج البحوث والدراسات، وضرورة الاهتمام بالبحوث التطبيقية والاستفادة من مشكلات الواقع وتقديم الحلول لها، إضافة إلى الاهتمام بالنوع وليس بالكم.
و. من المهم أن تنظّم مراكز البحوث والدراسات العربية ورش العمل والمؤتمرات والندوات بصورة دورية، لما لها من أثر كبير في إثراء النقاشات وتوجيه الرأي العام، وبيان مفاهيم قد تغيب عن ذهن صانع القرار.
كما ينبغي العمل على إنجاز دليل دوري لهذه المراكز لتسهيل التواصل والتعاون فيما بينها، إضافة إلى بناء شراكة حقيقية مع المؤسسات الإعلامية، للتعريف بها وبأهميتها، وعرض نتاجها، وما تقوم به من نشاطات.
الثمار السريعة والسهلة التي جناها الغرب من المراكز دفعه لرصد ميزانيات مفتوحة لدعمها وتطويرها
الخاتمة:
يمكن القول في ختام هذه الدراسة إن دور مراكز البحوث والدراسات يُعدّ جزءاً أساسياً من نشاط البحث العلمي، وهو ضرورة لترشيد ودعم صنع القرارات والسياسات العامة.
كما يُعدّ شكلاً من أشكال ممارسة التفكير الجمعي بين الباحثين للتحليل العلمي للأزمات والمشكلات الراهنة، وتقديم الحلول العلمية لمعالجتها.
لذلك نجد أن الدور الذي يجب أن تلعبه هذه المراكز في المجتمع والدولة أصبح يتطلب اهتماماً خاصاً من صانعي القرارات في العالم العربي، لأن الشراكة التفاعلية فيما بينهما هو جزء مهم من عملية تشاورية لتوليد الأفكار والحلول نحو اتجاهات إيجابية.
المراجع:
(1) علاء إبراهيم رجب، دور المراكز البحثية الأميركية في عملية صنع القرار السياسي: دراسة حالة «مؤسسة راند»، المركز العربي للبحوث والدراسات.
(2) حزب البعث الاشتراكي، مراكز الدراسات الأميركية وصناعة القرار، سلسلة دراسات استراتيجية، 2008م، ص18.
(3) د.معمر فيصل خولي، مركز الروابط والبحوث والدراسات الإستراتيجية.
(4) علاء إبراهيم رجب، دور المراكز البحثية الأميركية في عملية صنع القرار السياسي: دراسة حالة «مؤسسة راند»، المركز العربي للبحوث والدراسات.
(5) هزار صابر أمين، مراكز التفكير ودورها في التأثير على صنع السياسة، مجلة الفرات، العدد 4، 31 ديسمبر 2008م، العراق.
(6) خالد وليد محمود، دور مراكز الأبحاث في الوطن العربي: الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير 2013م.
(7) دينا شيرين محمد شفيق إبراهيم، دور وأهمية المراكز البحثية في صنع السياسة الخارجية، المركز الديمقراطي العربي، نوفمبر 2016م.
(8) عبد الله أبو ابراهيم، مراكز الفكر والمؤسسات البحثية الأميركية ودورها في الهيمنة على العالم والحرب على الإسلام والمسلمين، مجلة الوعي، أبريل 2020م، لبنان.
(9) د. سامي الخزندار، د. طارق الأسعد، دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، الجامعة الهاشمية، الأردن.
(10) المرجع نفسه.
(11) مهدي شحادة، وصالح بكري الطيار، دور مراكز الدراسات العربية في صناعة القرار، بيروت: مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1999، ط1، ص11.
(12) د.عباس علي محمد الحسيني، كيف نجعل من مركز البحوث مصدراً لانتاج الأفكار وليس مجرد مستودعاً لتجميع المعلومات، دراسة في الواقع العربي والعراقي، الملحقية الثقافية العراقية في الأردن.
(13) هاشم حسن حسين الشهواني، أهمية مراكز الأبحاث، موقع دنيا الرأي، بتاريخ 8 أغسطس 2011م.
(14) محمود سمير الرنتيسي، دور مراكز الأبحاث في العالم العربي، الملحقية الثقافية العراقية في الأردن.
(15) المرجع نفسه.
(16) خالد وليد محمود، دور مراكز الأبحاث في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
(17) د. محمود محمد عبدلله كسناوي، توجيه البحث العلمي في الدراسات في الجامعات السعودية، ملتقى شذرات.
(18) د. كاظم البطاط، البناء العلمي وأهمية مراكز الدراسات والبحوث، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
(19) د. حسان عبدالله حسان، مراكز الدراسات والأبحاث ودورها في صناعة القرار السياسي، مجلة المجتمع، 2018م.
(20) هشام الشهواني، مراكز الأبحاث وأهميتها، موقع دنيا الوطن.
نصائح مهمة لمراكز البحوث والدراسات
* إصدار البحوث والدراسات في الوقت المناسب وتسهيل الوصول إليها، حتى يستفيد منها صناع القرار والإعلام والأفراد.
* التحليل السريع وتوفير المعلومات، للتكيّف مع تسارع تدفق المعلومات الذي توفره التكنولوجيا الحديثة.
* وجوب تواصل المراكز البحثية مع مثيلاتها، لا سيما المراكز البحثية المرموقة.
* اتباع المراكز البحثية استراتيجية الاتصالات الحديثة لتبقى وتستمر لسنوات عديدة أخرى، وإلا ستنتهي.
* يجب أن تكون الأبحاث المنجزة مفهومة الأهداف وواضحة المسارات، للاستفادة من توصياتها.
* ضرورة التركيز على البحوث التطبيقية التي تهدف إلى تطبيق النظريات والمعارف.
* الاهتمام بالنوع وليس بالكم، وذلك من خلال الاعتماد على النوعية من البحوث وليس على الكم من المشاركين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.