لم يكن الشاعر السوري محمد الماغوط يتقن الكلام أمام الكاميرا، ولم تكن ملامح وجهه المتغضن والوقور، ملائمة للظهور في الفضائيات، فبقدر ما كان يشكل للقارئ مبدعاً متميزاً، كان يثير لدى المشاهد أسى، وبقدر نجاحه في الشعر كان فاشلاً في النقد والتنظير، وهو لم ينكر يوماً هذا الأمر، إذ يقول:"ما يعنيني أن اكتب بصدق... ومعركتي ليست وراء مكتب أو في حلقة نقاد أو وراء ميكروفون، معركتي هي في الحياة". الماغوط، الذي رحل قبل أيام، لم يكتب سوى هواجسه وهمومه... ويفاجأ، من ثم، بأنه أحدث انقلاباً في بنية القصيدة العربية التقليدية وإيقاعها، وغدا واحداً من أهم رواد قصيدة النثر، هو الذي لم يكن يملك من شروط الانتساب إلى عالم"الانتلجنسيا"والنخب المكرسة سوى حزنه، وتبغه الرديء، وأحلامه الكبيرة، وقصيدة هشة، خافتة النبرة، لكنها جارحة، وواضحة. هذا الاعتراف الذي طالما كرره الشاعر جعله يحجم عن إجراء الحوارات، على رغم ذلك لم تكف الفضائيات العربية عن السعي الى إجراء حوارات معه، وهي بحثت في أرشيفها، إثر رحيله، وبثت برامج عنه وحوارات معه، ومن بينها برنامج"روافد"الذي يقدمه أحمد علي الزين على شاشة العربية، وفيه بدا الماغوط في صورته المعهودة التي عرف بها في سنواته الأخيرة: يجلس الشاعر على أريكة زرقاء في غرفته المملوءة باللوحات والصور. السيجارة لا تفارق أصابعه، وأمامه طاولة صغيرة عليها كأس والكثير من العقاقير والأدوية، وصوت فيروز الآسر يملأ، أبداً، عزلته العابقة بالدخان، ورائحة التبغ، وأطياف الغائبين. هذا المشهد يتكرر في كل حوار مع الماغوط، وما فعله"روافد"هو انه أضفى على المشهد حيوية تمثلت في الحركة البطيئة للشريط المصور حيناً، واللجوء، أحياناً، إلى صور فوتوغرافية له، بالأبيض والأسود، موضوعة في ألبوم يعود إلى زمن بعيد: زمن السجون، والتشرد، والغرف الضيقة التي ألهمته"العصفور الأحدب"، وذهبت العدسة إلى بلدته السلمية حيث ولد في كنف أسرة فقيرة جعلته مناصراً مزمناً للقضايا الخاسرة، ومدافعاً عن الفقراء والمظلومين. يقول الماغوط في هذا الحوار"لا أتقن شيئاً سوى الكتابة، أو التفكير في الكتابة"، وإذ يقرن المشاهد هذا الكلام مع إبداعات الماغوط في مجال الشعر والمسرح والسيناريو يدرك مقدار وقع هذا الكلام، ومقدار الصدق الذي ينطوي عليه. أتى صوت الماغوط عميقاً، متقطعاً، متعباً، وعلى رغم بساطة حديثه فإنه كان يضمر سخرية مريرة تتبدى في قسمات وجه أرهقه الزمن، لكنه لم يستطع أن يمحو عنه بريق الرفض والاحتجاج. الماغوط من القلائل الذين آلفوا بين القول والممارسة، ف"الفرح ليس مهنته"، بل ال"حزن في ضوء القمر"، وهو أبى التصالح مع واقع بائس ومقهور، وكأنما الابتسام، قليلاً، في وجه الحياة هو بمثابة ذنب لم يشأ الشاعر اقترافه. بهذا الفهم حلق"النسر العتيق" بحسب وصف الزين له في فضاء القصائد التي اقتبس منها مقدم البرنامج مقاطع كثيرة ربما كانت هي الأهم في البرنامج. فإزاء إجابات الماغوط المختزلة، والمقتضبة، وإزاء استيائه من الأسئلة و"التفلسف"، أصبح اللجوء إلى عوالمه الشعرية الغنية والمدهشة، حلاً موفقاً، وهو ما أدركه الزين فاعتمده. لا يمكن، بأي حال، الفصل بين القصيدة وكاتبها، ولئن استطاع الماغوط أن يجذب القارئ إلى هذه القصيدة المختلفة، العفوية، الرقيقة، ويجعل منها نشيداً يردده الجميع، فانه لم يستطع أن يفعل ذلك في حواراته. على رغم ذلك يبقى للماغوط، صاحب تلك القصيدة المتفردة، حضور تفرضه هذه القصيدة نفسها. الفضائيات كانت تدرك ذلك، وسعت لأن تشبع فضول المشاهد وتقتحم، بالكاميرا والأضواء وفريق العمل، هدأة الشاعر الذي كثيراً ما وجد نفسه يحدق، بصمت في عدسة مصوبة نحوه، بينما هو ساهم، يفكر في قصيدة جديدة، كان آخرها قصيدة الرحيل الموجع، وهي الوحيدة التي روضته بعد عقود من المشاكسة والشغب والتمرد النبيل.