ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    كلوب يدعم إلغاء العمل بتقنية «فار» بشكله الحالي    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    دول غربية تحذر إسرائيل من اجتياح رفح    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    مفتي المملكة يشيد بالجهود العلمية داخل الحرمين الشريفين    استكمال جرعات التطعيمات لرفع مناعة الحجاج ضد الأمراض المعدية.    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    أمطار وسيول على أجزاء من 7 مناطق    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    ولي العهد يستقبل العلماء والمواطنين بالشرقية    9 جوائز خاصة لطلاب المملكة ب"آيسف"    جوزيه مارتينيز حكماً لديربي النصر والهلال    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    تشكيل الهلال المتوقع أمام النصر    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    «الأقنعة السوداء»    السعودية والأمريكية    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    حلول سعودية في قمة التحديات    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    حراك شامل    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    فوائد صحية للفلفل الأسود    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشراكة مداولة : رد على رسالة مثقفين أميركيين في شأن الحدّ من الارهاب بعد 11 سبمتبر
نشر في الحياة يوم 03 - 04 - 2002

هذه المقالة صيغت في شكل جواب على رسالة مثقفين أميركيين الى الرأي العام العربي والإسلامي حول أحداث 11 أيلول سبتمبر. والمقالة مجرد ورقة للمداولة والمناقشة كما جرى تقديمها في الأصل الى "مؤسسة الفكر العربي"، لتطرح أيضاً على بعض الذين أبدوا اهتمامهم بصوغ اجابة عربية مشتركة على الرسالة الأميركية.
تلقينا ببالغ الاهتمام الرسالة التي وجهها جمع كبير من المثقفين الأميركيين الى الرأي العام في العالم العربي والإسلامي. لكي يشرحوا وجهة نظرهم من أحداث 11 أيلول وما تلاها من تداعيات. وهذه الرسالة تستحق من جانبنا الترحيب والتقدير، بقدر ما تستدعي الرد والاجابة، سيما وانها تخاطبنا من منطلق الصداقة والأخوة في الانسانية والاحترام المتبادل. بذلك تفتح الرسالة الباب للحوار في قضية الساعة كما تجسدت في أعمال الارهاب والحرب المضادة لها، وهي قضية خطيرة تتهدد سلام العالم، في عصر باتت فيه المصائر متشابكة بين المجتمعات البشرية على اختلاف خصوصياتها الثقافية. من هنا المسؤولية الجسيمة التي تقع على عاتق الجميع، بصرف النظر عن جنسياتهم ومذاهبهم ومواقعهم، والتي تحملهم على أن يتداولوا وجهات النظر في شأن عالمي يترك آثاره السلبية والمدمرة على الأميركيين والغربيين كما على العرب والمسلمين، وعلى الناس أجمعين.
لا تخفي الرسالة الهدف الذي رمى اليه الذين وقعوها: تأييد الحكومة الأميركية في الحرب التي تشنها على الجماعات الارهابية التي هي ذات انتماءات عربية اسلامية. ومع ذلك لن نعد الرسالة بياناً حربياً كما قد يوحي السطر الأول منها وفيه تأكيد على ضرورة الدفاع عن الأمة ب"قوة السلاح"، وانما نعتبرها محاولة، من جانب جماعة من أهل الرأي والفكر، لتسويغ وشرعنة الحرب الأميركية على الارهاب بالاستناد الى القيم الأخلاقية الكونية التي يرى الموقعون انها تنطبق على جميع الشعوب دونما تمييز على أساس اللغة والعرق والدين والثقافة، أي القيم الإنسانية الجامعة التي تؤكد على حرية الاعتقاد وحق الاختلاف بقدر ما تنص على المساواة بين جميع الناس في الكرامة والحقوق الأساسية، سواء من منطق الشرائع الدينية أو القوانين الوضعية. مع اعترافهم بأنه عندما ينشأ خلاف حول هذه القيم، فإن معالجته تستدعي الانفتاح على الآخر واستخدام لغة المحاججة بعقلية مدنية. مرة أخرى لا يسعنا سوى الترحيب بالذين وجهوا الرسالة لتركيزهم على المبادئ القائمة على الاعتراف المتبادل ولدعوتهم لنا الى ان نتعامل معهم كأصدقاء يعترفون بأن كرامتنا ليست أقل من كرامتهم، وبأن هناك الكثير مما يمكن لنا ولهم ان نفعله سوياً، وأخصه بالذكر الاشتراك في بناء سلام عادل ودائم.
وانطلاقاً من هذه الحقائق الأساسية التي لا خلاف عليها، نرى ان الرسالة تغفل من جانبها بعض الحقائق الأساسية التي نود تسليط الأضواء عليها:
1 - ان المثقفين الأميركيين، فيما هم يسوّغون ويدعمون سياسة حكومتهم في الحرب على الارهاب، يتناسون علاقة الادارات الأميركية المتعاقبة بالارهاب ومنظماته الاسلامية بنوع خاص. وهناك مسؤولون عرب كثيراً ما لفتوا نظر الأميركيين الى انهم يستقبلون الارهابيين على الأرض الأميركية أو يسكتون عنهم، من دون ان يلقوا آذاناً صاغية. بل كان المسؤولون الأميركيون يدافعون عن ايوائهم الارهابيين بذريعة حرية الرأي أو احترام حقوق الإنسان. لا نريد القول ان أميركا هي التي صنعت الارهاب الإسلامي. ولكن ثمة علامة استفهام كبيرة تحتاج الى جواب: هل نحن مع الارهاب عندما يوظف لحسابنا ضد الغير ثم نصبح ضده عندما يصل ضرره الينا؟ اذا كان الأمر كذلك، فإننا نفقد عندها الصدقية والمشروعية في دعوى محاربته. واذا كان من حق الأميركيين ان يتساءلوا منذ 11 أيلول: لماذا نحن عرضة للقتل على أرضنا، كما تقول الرسالة، فإن من واجبهم إذا شاؤوا معرفة الوجه الآخر للمسائل المعقدة، ان يتساءلوا ما الذي كانت تستهدفه أميركا خارج أرضها عندما تحالفت في أفغانستان مع الارهابيين الذين تدعي محاربتهم الآن؟! ومن واجبهم ايضاً ان يتساءلوا بأي حق تتدخل حكومتهم في أي مكان تشاء من العالم؟! وحسناً ان الرسالة تنطوي على اشارات نقدية لسياسات الولايات المتحدة. وتعترف بأن بعض موقعيها يعترضون على هذه السياسة، بل ان الرسالة تعترف بأن الارتياب الذي يشعر به العرب والمسلمون تجاه الأميركيين يحمل هؤلاء مسؤوليته وان في صورة جزئية.
2 - ان الرسالة، وهي موجهة الى العرب والمسلمين في الدرجة الأولى، تغيّب وسط المشهد العالمي بؤرة لممارسة العنف، حروباً وارهاباً منذ خمسين عاماً، كما هي الحال في المنطقة المسماة الشرق الأوسط، حيث الحكومات الاسرائيلية تنتهج، في تعاملها مع الفلسطينيين، سياسة التمييز العنصري وتمارس أعمال الهدم والتشريد أو القتل والابادة، كما تجسد ذلك أخيراً في الحرب التي يشنها الجيش الاسرائيلي على الفلسطينيين سلطة وشعباً، عمراناً ومؤسسات. لا ننسى المدنيين الاسرائيليين الذين هم ضحايا العنف الذي تمارسه المنظمات الفلسطينية. ولا يسعنا ازاء ذلك سوى ترداد ما قالته والدة الفتى الأعزل محمد الدرة الذي قُتل في حضن والده برصاص الجنود الاسرائيليين: أتمنى ان لا تفجع الأمّ الاسرائيلية بما فجعت به.
لنعترف بأن للعنف جذوره في هذه المنطقة: مهاجرون يهود يتركون بلدانهم الأصلية بعقلية استيطانية للحلول محل الفلسطينيين بقوة السلاح هدماً للبيوت أو ابادة للسكان، كما يشهد على ذلك مرأى الأطفال والنساء الفلسطينيين يبكون على أنقاض منازلهم أو يندبون قتلاهم. هذا ما يحصل منذ خمسة عقود ونيف. ما دفع كاتباً كبيراً له شهرته العالمية، هو غبريال غارسيا ماركيز، الى ان يرفع صوته احتجاجاً على المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون. والعجب ان ما تفعله اسرائيل من انتهاكات يلقى دوماً الدعم والتأييد من جانب الحكومات الأميركية التي تستخدم معايير مزدوجة في معاملتها للطرفين، مما يقوض مهمتها كوسيط فاعل، ويزيد المشكلة تعقيداً، بقدر ما يحملنا على طرح الأسئلة حول صدقية الولايات المتحدة كراع للسلام أو حول جديتها في الوصول الى سلام عادل ودائم. صحيح ان الارهاب الاسلامي ليس وليد النزاع العربي - الاسرائيلي. وانما له جذوره عند أصحاب العقليات الاصطفائية الذين يعتقدون انهم يحتكرون الايمان الديني أو ينطقون باسم الحقيقة الكاملة والنهائية. لكن هذا النزاع يغذي ولا شك بؤر العنف في منطقتنا ويفعل فعله في النفوس والعقول. وهو يضر بقضية السلام كما يشكل طعناً لمبادئ الكرامة وحقوق الإنسان.
العنف قد تصنعه المصلحة أو الذاكرة أو القوة أو اجتماع ذلك وتضافره، كما تشهد المحرقة اليهودية والمأساة الفلسطينية. وكلاهما صنيعة العالم الغربي والولايات المتحدة، في صورة كلية أو جزئية. وهذا ما يتناساه موقعو الرسالة: التعويض على الضحايا في مكان، بإيقاع ضحايا مضاعفة في مكان آخر. ولا عجب فالحداثة التي تبهرنا وما تزال بإنجازاتها لها وجهها الآخر، إذ هي قامت بليبراليتها وعقلانيتها على بحار من الدماء. وما حصل في القرن الفائت من المآسي والأهوال يشكك بصدقية قيم العقل والتنوير بقدر ما يطعن حقوق الإنسان التي ندافع عنها في الصميم.
3 - نتفق مع موقعي الرسالة في التفريق بين المسلم ومن يسمونه "الإسلاموي"، أي المسلم الأصولي المتطرف الذي يمارس الارهاب الفكري أو المادي والذي ينصب نفسه وصياً على المسلمين بقدر ما يسعى الى تطبيق الإسلام، والأحرى القول مفهومه الخاص للإسلام، بالقوة والإكراه على المسلمين أنفسهم. هذا ما عانت وما تزال تعاني منه الشعوب الإسلامية في غير بلد من بلدانها.
كذلك نتفق معهم بأن الشبكة المسؤولة عن كارثة 11 أيلول لا تمثل غالبية المسلمين الذين يمارسون هويتهم الدينية في صورة ايمانية تقليدية، أي لا ينتمون الى الأدلوجات الكفاحية والمنظمات السياسية ذات النشأة الحديثة. بل ان الشبكة الارهابية بقتلها الأبرياء، أيّاً كانت عقائدهم أو جنسياتهم، انما تطعن في المبادئ الاسلامية الداعية الى التعارف والمجادلة بالحسنى. وحسناً فعل أصدقاؤنا موقعو الرسالة إذ تعرضوا لهذه المسألة بتأكيدهم على ان "حركة القاعدة" التي تنطق باسم الإسلام انما تخون مبادئه. فهم في ذلك لا يتدخلون في ما لا يعنيهم كما سارع الى اتهامهم بعض المثقفين عندنا. بالعكس، لغير المسلم أن ينظر في الإسلام ويبدي رأيه فيه أو يحتج به ضد خرق مبادئه من جانب أتباعه أو الناطقين باسمه، خصوصاً ان الإسلام كان عند انطلاقته دعوة عالمية موجهة الى الناس اجمعين، بدليل ان مفردة "الإنسان" تتردد في القرآن أكثر بكثير من مفردة "الإسلام". فكيف ونحن اليوم في عصر معولم تتسع فيه وتتعاظم حركة الانتقال والهجرات للأشخاص وأعمال التبادل والتداول للأموال والمعلومات أو للسلع والأدوات بصورة لا سابق لها.
أمست الجماعات البشرية تعيش حقاً في فضاء حضارة واحدة، وتسير قدماً نحو التوحد على غير صعيد، بحيث يتأثر بعضها ببعض ويتوقف بعضها على بعض، كما تشهد الأزمات الاقتصادية وكما تشهد المسألة البيئية والمعضلات الأمنية بصورة خاصة. وهكذا يتشكل مجتمع عالمي جديد يزداد توحداً بقدر ما يزداد تعقيداً واختلاطاً قوامه ونسيجه الاعتماد المتبادل والتأثير المتبادل، من هنا الحاجة الى صياغة قيم التضامن وحقوق التدخل في بصورة تتجاوز الأطر المحلية والقومية الى المستوى الكوني، بحيث ينشأ حق انساني عام يتيح لكل واحد التدخل مع الآخرين، بالمساءلة والمناقشة والمداولة، في أفكارهم وأعمالهم. هنا لا اعتراض على الولايات المتحدة في ممارستها الحق الانساني العام، عبر تدخلها في شؤون غيرها من الأمم والدول. وفي أي حال فهي لطالما مارست ذلك، ولن نتهمها بأنها تمارس دور المدعي العام في العالم. ولكن مثل هذا الحق هو قاعدة عامة يتساوى أمامها الجميع، لكي يتمرسوا بتطبيقها بمنطق المبادلة والمداولة، وعلى نحو يسهم في ابراز البعد العالمي لهوية البشرية.
انطلاقاً من هذه القاعدة تتبدى مشروعية التساؤلات والاعتراضات، من جانبنا، حول سياسة الولايات المتحدة في ادارتها الشأن الدولي، وحول استراتيجيتها في شن الحرب ضد الارهاب، كما تمثل ذلك في الخطب والمواقف المعلنة من جانب قادتها، حيث الخيارات المطلقة والحلول القصوى كالتأكيد على خوض الحرب مهما كان الثمن، وحيث استخدام مفردات الشر تعيد اجواء الحرب الباردة أو تعود الى زمن الحروب المقدسة، وحيث أطلق شعار: من ليس معنا فهو ضدنا، وهو شعار تمليه عقلية المصادرة والالغاء ويصدر عن فكر أحادي تبسيطي يقسم العالم بموجب ثنائيات تحفر الخنادق الرمزية والمادية بين الجماعات البشرية، الأمر الذي أثار انتقاد الكثيرين من الساسة والمثقفين في البلدان الغربية.
بهذا تحاول القيادة الأميركية محاربة الارهاب، بعقلية تكاد تكون ارهابية، بقدر ما تحشر الآخرين، من الحلفاء وغيرهم، بين فكي كماشة العقل الحصري، اذ هي تضعهم بين خيارين لا ثالث لهما، أو بين طرفي نقيض لا توسط بينهما: اما ان يكونوا معها أو مع بن لادن، إما ان يحاربوا الى جانبها أو يكونوا مع محور الشر. بذلك تصادر الرأي وتلغي المحاورة أو المشاورة قبل أن تبدأ، فتلتقي مع الارهابيين أو تتواطأ معهم فيما هي تدعي محاربتهم. ذلك ان الارهابي هو من يحاول فرض آرائه على غيره، أو من يرفض الحوار والمداولة مع الآخر أيّاً كان الرأي المتداول، أو من يعتقد أن هناك مطالب غير قابلة للتفاوض، أو من يقفل النقاش ولا يتزحزح عن موقفه.
والولايات المتحدة، إذ تمارس الانفراد والاستئثار أو الالغاء والحصر أو المصادرة والوصاية، في الآراء والخيارات والمواقف، انما تتراجع عن دورها العالمي وتتعارض مع قيادتها العولمة وتصدرها العالم الليبرالي، أي تتراجع عما أنجزته على صعيد الحقوق والحريات ثم على صعيد العمل الكوكبي والمنظور المستقبلي. ذلك ان أميركا التي يوجه مثقفوها الآن رسالة حرب الى العالم، هي مجتمع متعدد الأعراق والطوائف والجاليات، بقدر ما ابتكرت مفهوم التعددية الثقافية، وهي بؤرة لتلاقح الثقافات وتهجين الهويات بقدر ما هي مجتمع المواطنية المفتوحة والعلاقات المعولمة، وهي مجال مفتوح لممارسة حرية الرأي والعمل بقدر ما هي نموذج ناجح للعيش، الأمر الذي جعل ويجعل الكثيرين من الشباب العرب والمسلمين يفكرون أو يحلمون بالسفر اليه. بهذا تحتل أميركا مكانة لا يحتلها سواها، ليس لأن الأميركيين هم من عالم آخر، أو لأنهم يستطيعون أن يعيشوا عيشة الكفاية بمعزل عن بقية الناس أو بالاستغناء عن غيرهم، كما قد يعتقدون وهماً أو سذاجة، بل لأنها أكثر بلد يتيح لأبنائه وللمقيمين فيه، وبصرف النظر عن انتماءاتهم وطبقاتهم، تفتح طاقاتهم واستثمار مواهبهم بحيث يمارسون علاقتهم بوجودهم على سبيل الاستحقاق والازدهار وفي فضاء من الحرية هو الأوسع في العالم.
وما نخشى عليه ان تؤدي الحرب على الارهاب الى تراجع الحريات وان يطغى هاجس الأمن على حساب الحقوق وان تؤدي سياسة الانفراد والابتزاز الى التعارض مع مسارات العولمة وفتوحاتها التي تُطلق امكانات جديدة للتواصل والانتقال، بذلك تخسر أميركا ما تتميز به بالذات: اللغة العالمية والمنطق الكوكبي والفضاء المفتوح. من حقنا عليها ان نقول ذلك انطلاقاً من الحق الانساني الكوني ومن منطلق التداول الكوكبي، كما من حقها علينا ان تطالبنا بإعادة النظر في مواد التعليم التي تتعارض مع قيم الأخوة والتواصل أو تدعو الى الكره والعداء والإقصاء.
4 - لا نختلف مع الموقعين على الرسالة المبادئ المعلنة والقيم الجامعة. لكن المسألة لم تعد اليوم مجرد اصدار بيانات حول كرامة الانسان وحقوقه. لقد تعدت الأزمة المستويات الخلقية والقانونية الى المستوى الوجودي بالذات. والسؤال الآن هو: لماذا لا تحسن البشرية سوى انتهاك ما تدعو اليه أو صنع ما تشكو منه؟! هذا هو الإشكال الكبير: ازدياد العنف وتطور أشكال الإرهاب وأدواته مع تطور التقنيات وانفجار المعلومات. ولو استعرضنا المؤلفات والدراسات التي صدرت في السنوات الأخيرة في مختلف فروع المعرفة وعلوم الإنسان، عن كتّاب ومفكرين غربيين، يحاولون قراءة المشهد العالمي، تطالعنا بل تفاجئنا العناوين الآتية: الخيبة، الصدمة، الآفاق المسدودة، الفخ، الجهل الجديد، الشر المحض، الرعب، البربرية، العدمية، النهاية، وسواها من العناوين التي تشهد على المأزق الوجودي للإنسان المعاصر بقدر ما تشي بالكارثة أو تستبق وقوعها.
هنا، من التبسيط القول ان العنف الذي يفاجئنا ويصدمنا بإرهابه ورعبه، هو مجرد تجسيد لصدام الثقافات، أو مجرد تعبير عن فشل المجتمعات الإسلامية في ممارسة الديموقراطية والتحديث. كذلك من الاختزال القول بأن الارهاب الأعمى والأقصى الذي أفزعتنا نماذجه في 11 أيلول مردّه الهوة بين الأغنياء والفقراء، أو هو رد فعل ضد القوة التي بلغت هيمنتها القصوى في أميركا، كما فسر الظاهرة جان بودريار. قد يكون لهذه العوامل الثقافية والحضارية أو الاجتماعية والسياسية أثرها الذي لا ينكر. لكن العنف الفائق الذي انفجر في 11 أيلول تجاوز ذلك، اذ هو عنف وجودي عدمي إذا جاز القول، تجلى في ممارسة القتل والدمار لمجرد القتل والتخريب، تماماً كما أشارت الرسالة، مستهدفاً بذلك نظام المعنى وسلم القيم بل تدمير الحياة بالذات. هذا النوع من العنف يمارس اليوم في غير مكان، خصوصاً في المدن الغربية، كما تشهد حوادث القتل الأعمى في المدارس والجامعات او حوادث الانتحار الجماعي، لمجرد العبث والجنون وتدمير معنى الحياة والوجود.
لذا فالمسألة تتجاوز كونها مجرد حفنة من الإرهابيين يهددون مصير الغرب والعالم، بقدر ما تتجاوز التقسيمات الدينية والخلقية الرائجة القائمة على التمييز بين كفر وإيمان أو بين محور الشر وفيلق الحرية. إنها أعقد وأخطر من ذلك بكثير، إذ هي معضلة انسانية باتت عاجزة عن معالجة دائها الأعظم: العنف الذي يزداد فظاعة وشراسة اي انها مشكلة المسلم الحداثي مع نفسه اذ هو لا يجهل اين هي المشكلة ولا يعرف كيف يثبت جدارته، كما هي مشكلة الغربي مع نفسه اذ هو يتهمنا بالتخلف فيما هو يريد لنا ان نبقى كذلك، ويتهمنا بالإرهاب ولا يحملنا إلا على ممارسته. بهذا المعنى ان ابن لادن الذي نتهمه بكارثة 11 ايلول هو ثمرة سيئة لثقافته الدينية الاصطفائية ومفاهيمه المغلقة كما هو ثمرة العالم الحديث بأزماته وإخفاقاته وسيئاته، ما جعله يمارس عنفاً مضاعفاً يجمع اسوأ ما في القدامة والحداثة، وما يحملنا على ان نضع على مشرحة النقد المزدوج خصوصياتنا الثقافية في تداخلها مع هوياتنا البشرية.
وهكذا نحن في وضعية وجودية تضع الإنسان امام مأزقه، ذلك ان انسانيتنا التي ندافع عنها تولد ما نشكو منه، اي البربرية بالذات، إذا اردنا ان نرى الى وجهنا الآخر الذي نحاول إخفاءه والتستر عليه. من هنا، فإن العنف قد تكمن جذوره حيث لا نحسب، في نماذج الثقافة وقيمها او في مسبقات الفكر ومؤسساته: في منطق المطابقة وديكتاتورية الحقيقة، في الحتميات المقفلة والنظريات الأحادية، في الأصول الثابتة والثنائيات الخانقة، في العقول المفخخة بالتصنيفات العنصرية والمفاضلات الاصطفائية، في الخطابات الملغمة بالادعاءات المثالية والمزاعم النخبوية. بهذا المعنى يصدر العنف المادي عن عنف رمزي اساسه التعامل مع المشاريع البشرية بمنطق المطلق والكلي او الكامل الثابت او النهائي والأحادي.
لنتحل ايها الأصدقاء الأميركيون بشيء من الواقعية، حتى لا نخدع أنفسنا ونحصد المزيد من الكوارث. فثقافاتنا وعقائدنا وقيمنا القديمة والحديثة، تحض على التسامح والانفتاح او على التواصل والتضامن، ولكن ما اكثر ما وظفت لإنتاج العنف او استخدمت للتمييز والاصطفاء او نصبت متاريس لشن الحرب على المختلف في الداخل او على الآخر في الخارج، كما تشهد الوقائع الصارخة، اي الحروب الفظيعة بين الديانات السماوية او بين المذاهب العلمانية، أو الحروب والفتن الأكثر فظاعة داخل كل ديانة بين طوائفها او داخل كل أدلوجة بين مذاهبها.
ولا بأس هنا ان نقوم بمحاسبة النفس لكي نعترف بما اقترفناه بحق بعضنا البعض. ومرة اخرى حسناً فعلت الرسالة اذ تعترف بما مارسته اميركا من "الغطرسة والتجاهل والسياسات المضللة" تجاه المجتمعات الأخرى او من "الإخفاق" في تطبيق المثل والمبادئ. ويمكن ان نضيف من جانبنا عقلية الاستقواء والتصرف بوصفها الوصية على قيم العدالة والحرية. فالعنف يتغذى من ادعاء احدنا بأنه يملك الحقيقة او يجسد القيم العليا او من تصرفه بوصفه مالك الملك. ولكن علينا ان نعترف من جهتنا، نحن العرب، بأننا مارسنا، من حيث علاقتنا بذواتنا او بالغرب والعالم، النرجسية الثقافية والعناد والمكابرة والجهل والعجز والقصور الذي يحملنا دوماً على وضع الملامة على الغير او على تفسير ما يحدث لنا من المكاره والمظالم بوصفه مؤامرات تحاك ضدنا من الخارج، غافلين بذلك ان الرهان هو ان نثبت جدارتنا بأن نعمل على ذواتنا ومعطيات وجودنا، بالجهد والنقد والصناعة، لكي نتحول عن افكارنا ونغير واقعنا، عبر المشاركة في إنتاج المعرفة والقيمة او الثروة والقوة.
الأجدى لنا جميعاً ان نعيد الأمور الى نصابها بتجاوز التهويمات الإيديولوجية والادعاءات الخلقية او التصنيفات العنصرية والهواجس الذاتية. فالغرب والولايات المتحدة من جهة، والعالم العربي والإسلامي من جهة اخرى، هما عالمان لا ينفك الواحد منهما عن الآخر منذ قرنين من الزمن. نحن نحتاج إليكم ولا نستغني عنكم، تماماً كما انكم تحتاجون إلينا ولا تستغنون عنا، وإن اختلفت وجوه الحاجة بيننا وبينكم، إذ أنتم في موقع القوي والمنتج والباث، أما نحن فما زلنا في موقع الضعيف والمستهلك والمتلقي. وهكذا لا احد يقوم او يكتفي بذاته وموارده. فكيف اليوم حيث ما يتخذه الواحد من الخيارات او يضعه من الاستراتيجيات أو يحققه من الإنجازات له مردوده على الآخرين، سلباً أو إيجاباً، ضرراً أو نفعاً، هلاكاً أو حياة.
من هنا لا بديل في معالجة المشكلات وتنمية القدرات عن التعايش والتداول أو التبادل والتضامن. إن ممارسة الخصوصيات وإدارة المشاريع والمشاركة في الشأن العالمي، في عصر تتعولم فيه العلاقات بين البشر وتقوم على الاعتماد المتبادل، كل ذلك يحتاج الى افكار جديدة لكي تكون له مفاعيله الإيجابية ولكي يؤتي ثماره البناءة او الطيبة، تنمية وتفتحاً أو تحسيناً وازدهاراً. لنعترف بأن هناك مرحلة تاريخية تكتب نهايتها الطفرات والتحولات التي تتغير معها خارطة العالم. ولكن النهاية لا تعني مجرد انتصار الليبرالية والرأسمالية. فالحداثة بعناوينها ونماذجها وعقلانياتها تشهد منذ زمن على عجزها امام آفات الفقر وآليات الاستبداد وفظائع العنف، كما تكتب نهايتها التحولات والتغيرات والانفجارات في مختلف انشطة الحياة ووجوه العيش، النظرية والعملية أو الرمزية والمادية او المعرفية والتقنية. وإذا كان العالم يتغير بنظامه وحركته وقواه ووسائله، فلا مهرب من تغيير اطر النظر ومعايير العمل، لتغذية مصادر المشروعية ومشاريع الوجود بعناوين ومقاصد وأبعاد جديدة. فلم تعد تجدي المحافظة على قيم نسيء دوماً استخدامها، الأجدى العمل على اعادة صوغها وتجديدها في ضوء الإخفاقات والمتغيرات. وهكذا تعدت المسألة مجرد الدفاع عن الحداثة والعقلانية وحقوق الإنسان، إذ هي تستدعي العمل على إعادة صوغ مفاهيمنا للحقيقة والعدالة والحرية والإنسان نفسه.
إننا فيما نوصل صوتنا الى إخوتنا وأخواتنا في الولايات المتحدة، وفي كل مكان، نقول لهم: هناك بالطبع الكثير مما نشترك فيه وما نفعله سوياً، بل نقول لا مجال، بعد اليوم، للحد من العنف والمشاركة في بناء سلام عادل أو في تحسين شروط الحياة، إلا بالتفكير والعمل معاً، على سبيل التحاور والتداول، وبعيداً من منطق الانفراد والانعزال. ولا يعني ذلك التراجع عن المكتسبات التي تحققت في مجالات الحقوق والحريات، كما لا يعني ان نتوقف عن مجابهة العنف الذي يتهددنا، حتى نعيد تشكيل فكرنا أو تأهيل انفسنا.
لكن مهمتنا الأولى، نحن العاملين في ميادين المعرفة، ليست تسويغ الحرب، ولا تبرير الإرهاب، بل العمل على تحليل الظاهرات وصوغ المشكلات او تفكيك الأزمات وفهم المآزق، بابتكار افكار وإنتاج معارف توسع مفهومنا للحق بقدر ما تغني مفهوم الشخصية البشرية. بذلك نمتلك قدرات اكبر وأفعل لمواجهة الإرهاب، عبر التداول مع اصحاب القرار السياسي والشأن الأمني، سواء من الناحية السلبية او الإيجابية.
سلبياً بحيث يجابه الإرهاب ليس بالحرب مهما كانت اثمانها، بل بالحد الأدنى من القوة المستندة الى القوانين وشرعة حقوق الإنسان.
ايجابياً بحيث يجري العمل على ايجاد مخارج وجودية، للنزعات الإرهابية، ذات طابع ثقافي، وذلك بابتكار قيم وأساليب وإجراءات تساعد على تشكيل بيئات سلمية وخلق فرص جديدة امام العمل الحضاري والتنمية البشرية، وعلى نحو ننتقل معه من المجتمع المغلق والنخبوي والتفاضلي، الى المجتمع التداولي والكوكبي.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.