1 يقتبس الباحث الفرنسي برنارد قارده من بودريار العبارة التالية «الأخلاق العالية في الحياة العامة تولّد أيضا لغة عالية. وأن اللغة تتشوه على لسان الشخص البذيء؛ وأننا نرى نُبل اللغة على لسان الشخص المغمور تجعل جبينه ونظراته تشرق من الفضيلة» (ترجمة عبدالله الخطيب). تشير العبارة ضمنا إلى شخصين: الأول شخص غير بذيء؛ بمعنى ما شخص مؤدب، أخلاقه عالية، وحين يتحدث فإن لغته مؤدبة نبيلة. في المقابل هناك شخص بذيء حين يتحدث يشوه اللغة. لكن بما أن اللغة ظاهرة اجتماعية وليست ظاهرة فردية، وبما أن شبكة من المسلمات تشكل خلفية الإنسان المعرفية؛ أي حين يتصرف، أو يفكر، أو يتحدث، فهو يسلم بوجود طريقة معينة يوصفها جون سيرل على أنها «شبكة من الأحكام والتصورات».. أقول بما أن ذلك كذلك فلا مجال لهذا التقسيم إلى لغة شخصين؛ إنما المجال مجال التقسيم إلى تصورات الشخصين عن المجتمع الذي يعيشان فيه. فالشخص صاحب الكلمات غير البذيئة يتصور المجتمع من وجهة نظر أخلاقية؛ فلا يستخدم اللغة التي تخدش الذوق العام. وعلى العكس منه فإن من يستخدم اللغة البذيئة يتصور المجتمع من وجهة نظر اجتماعية؛ أي أن المجتمع ليس فاضلا، ولا بد أن يحتشد بكلمات لا تنم عن أخلاقيته. وإني لآمل أن يتضح ما أريد قوله في الفقرتين التاليتين. 2 نشر عبده خال روايته أمامي ترحل العصافير منجمة في عكاظ (فيما بعد صدرت بعنوان مدن تأكل العشب) وبما أن شخصياتها تحتفي باللعن والشتم فقد كتب إليه أحد القراء مستهجنا ومعترضا. فيما بعد نشر هذا القارئ رسالته المطولة في كتاب بعنوان (وقفات مع عبده خال في روايته أمامي ترحل العصافير) وبرر نشرها في كتاب مستقل باستنفاده جميع الوسائل لكي تنشر في جريدة يومية. فكرة هذه الرسالة هي أن توجيه اللعن والشتم واستخدام الألفاظ المقذعة لا يجوز حتى لو كانت في رواية، كما أن فرض عبارات غير لائقة على القارئ واختيار أقذع الألفاظ وأخبثها لا يؤدي إلى هدف ولا يحققه إلا إذا كان هذا من باب استحسان ما ليس حسنا. هذه الرسالة ذكرتني بموقف أحد الأدباء يقول: إن البهجة الأولى التي لا تنسى، تلك التي زودتني بها اللغة كانت في اكتشافي الكلمات البذيئة، لا بد أنني كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري عندما سمعت ذات مرة هذه الكلمات وعندما أعدتها ولفظتها بصوت عال لأثير إعجاب الجميع صفعتني أمي وقالت لي ألا ألفظ تلك الكلمة ثانية. لقد فهم الأديب موقف أمه بوجود كلمات ثمينة لا ينبغي على المرء أن يلفظها بصوت عال أمام الآخرين. ما أريد قوله هو أننا يجب أن نتعلم الحياة وأن نعيش الواقع والشخصية الروائية حينما تتكلم وتسب وتلعن هي نموذج إنساني لما هو حادث ومن ثم فلا شيء مما هو إنساني غريب عنها. إن الإنسان -أحيانا- لا يملك إلا أن يشتم ويسب وهذه ميزته التي ينفرد بها عن سائر الحيوانات. 3 يورد ابن فضلان في رحلته إحدى الحكايات. يعلق محقق الرحلة على الحكاية قائلا «نحن نستفظع اللفظة هذه الأيام، ولكن القدماء فيما يظهر لنا لم يكونوا على مثل نظرتنا لذلك أبقينا ما جاء في النص أمانة وعملا بأنه لا حياء في الدين. ترى لماذا يستفظع الحديثون ألفاظ القدماء؟. يعيد عبدالله الطيب الباحث السوداني في كتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب) ذلك إلى تطور الشعور الأخلاقي، مفترضا أن حساسية المحدثين مستمدة من القيم البرجوازية الأوربية، ولا يخفي أسفه على انتقال هذه الحساسية إلى الفقهاء الذين كانت مجالسهم -في الماضي- متنفسا للكبت الأخلاقي المتعلق بالألفاظ. لقد اعترفت الثقافة الإسلامية بوجود فروقات فردية في جسد المجتمع؛ مما جعل الحياة مزيجا من العفة والمجون ومن يقرأ ما كتبه القدماء -لا سيما الجاحظ - سيعرف أن كتابتهم لم تتميز بالحشمة الزائدة، إذ نقلوا وقائع الحياة وناقشوها بحرية، معتبرين أن خطر بعض الممارسات لا يعني عدم نقلها أو منع الكلام عنها، وعلى هذه الخلفية تحديدا لم يتحاش ابن فضلان وصف اغتسال رجال ونساء الصقالبة معا، أو ممارسة الرجل الروسي للعلاقة أمام رفيقه. فيما بعد (عصر الانحطاط) تحجرت الثقافة العربية والإسلامية، فعوضت جمودها بسمو الأخلاق؛ فلم تسمح بتسمية بعض العلاقات وتسمية أعضاء المرأة بشكل صريح، وطردتها خارج الكتب (المحترمة) التي تقرؤها الفئات الثقافية العليا (المحترمة)، فانتقل هذا إلى الكتب (غير المحترمة) من وجهة نظرها المخصصة للفئات الثقافية الدنيا (غير المحترمة) وعلى هذه الخلفية ذاعت حكايات (ألف ليلة وليلة). وفي عهد قريب (النهضة) زادت رقابة الثقافة على ألفاظ الجسد، فطمسته وبدأ المثقفون الأفندية -بتعبير عبدالله الطيب- يخجلون من أجسادهم، واعتبروا الألفاظ الشبقية والنكات الجنسية لغة منحطة ومخجلة، فخلقوا وضعا نفسيا يتمثل في الإحساس بالخجل والذنب وتأنيب الضمير. هذا الوضع النفسي المتعلق بالرقابة على الجسد، ولد الرقابة على اللغة، فقمع المثقفون الأفندية ألفاظ الجسد واللهو واللعب والشهوة، ومن هذه الخلفية تحديدا ولد تعليق محقق الرحلة على ألفاظ ابن فضلان، ولكي يكون أمينا على النص استند إلى خلفية القدماء الثقافية حتى لا يخدش حشمة المعاصرين الزائدة. * ناقد سعودي