ما كابد المحبون أمرا عصيا مثل مكابدتهم ومغالبتهم لكتمان الهوى، وصيانة «السر» من أن يبوح، فيتفرق ذكره بين الألسن الفواضح، وهم في سعيهم ذلك مؤتمرون بأمر المحب، وخاضعون لسلطانه، وملتزمون له بمبدأ الكتمان ما وسعهم ذلك.. ولكن هيهات.. فالقوارير مهما بالغت في صيانة ما بها من عطر، فلابد من رائحة زكية تعرف طريقها إلى أنوف مدربة على الاستقصاء؛ كأنما بها غدد إضافية نسجت من أعصاب «الفضول».. إنه الحب في مسارب الروح الشفيفة، يمسك بأعنتها، ويقود خطاها في مسالك الحنين، والشوق المتلاف، تتقافز في دواخلها نزعة الإفصاح عما فاض في حناياها من شعور يبحث عن لسان مفصح، وإعلان يبث الفرحة في ربوع القلوب، وأفياء النفوس الظمأى، ولكن مواثيق العهد بالكتمان تزجر النفس، وتمسك الروح عن مغامرة الافتضاح، فإذا الصراع في النفس يحتدم، وإذا المقاومة تخفت حينا وتعلو في أخرى، وما أصدق قول الشاعر وصفا لذلك: لا يكتم السر إلا أخو ثقة والسر عند خيار الناس مكتوم فالسر عندي في بيت له غلق ضاعت مفاتيحه، والباب مختوم وإن كانت المبالغة في الكتمان قد بلغت ب«هذا» حد أن يضع سر هواه في بيت ويغلق عليه بختم، ويضيع المفتاح، فإن «صاحبه» الآخر، ذهب أبعد من ذلك، وأخفى الأمر حتى على حسه، انظر إليه يقول: ومستودعي سرا كتمت مكانه عن الحس خوفا أن ينم به الحس وخفت عليه من هوى النفس شهوة فأودعته من حيث لا يبلغ الحس هكذا حال من صدق المحب، وأوفى له بدين الصمت رغم الأوابد، والصبر رغم المكاره، على نار الجوى، وحرقة الحشاشة، ومضرمات الغرام، حذرا من أن تناله معيبة الافتضاح، ومثلبة نقض العهد والمثياق، فما أغلظ القول وأعنفه لمن يقع في مثل هذه المأثمة المكروهة والمنكرة في عرف الغرام والهوى والهيام، ألم تسمع قول قائلهم: إذا ما المرء أخطأه ثلاث فبعه ولو بكف من رماد سلامة صدره، والصدق منه وكمان السرائر في الفؤاد وللسر مني موضع لا يناله نديم ولا يفضي إليه شراب إن الكتمان يذهب من المحبين مذاهب شتى، وطرائق قددا، فثمة من يطوى على الهوى نفسا، ولكن ما يفتأ يخرج اللسان بالمرمزات من القول، حتى ليوشك أن يكشف عن طوية نفسه، فيأتي قوله سجفا من شفيف المشاعر تبين ولا تبين، تقول ولا تقول، وهي في ذلك تغير حتى من كيمياء الروح، وتعيد ترتيب روحه وفق مزاجها الخاص، وتعمد إلى الفيزياء من حولها فتجعل منافذ الخروج هي مداخله للمحب حين يبشر بالوصل، ويمنى باللقاء الموعود، ولئن كنت في عجلة من معرفة كيف يكون مثل هذا الحال المتلاف، فانظر قول قائلهم: بشرتني.. ابيض المدى حولي.. بروقك أوشكت.. وتهيأت مقل السفوح بشرتني.. فالنور.. والأظلال.. واللحن الصداوي المؤوج قصر الزمام على البصيرة والتقت صرط العروج فاغفر... إذا شوقا دخلت إليك.. من باب الخروج إنه الحب الفياض، الذي يسع الناس ألفة، ويغمرهم ودا، ويحيل قفر أرواحهم مروجا خضرا يانعات.. بغيته الجمال، ورسالته الإيلاف، وسبيله الإيناع في كل قلب بما يصلح شائكه، وينير بصيرته، ويهذب طبائعه.. ننادي بها رسالة للحياة؛ دحرا للعبوس القمطرير، وإرساء لمبدأ الطمأنينة والأمان، فمن أحب وبودل بالحب أمن وآمن غيره، فما خسر الأولون بالحب، وإنما ضاعوا بسبب الكراهية وأسبابها النتنات.. ادخلوا إلى حرم الحب بكل طاقة الحياة، واستقبلوه بكل بشاشة النفس، فما دام الموت محتوما علينا فليكن في سبيل الحب، وفي طريقه الممراح الجميل.. وما عجبي موت المحبين من الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيب سنعلي من راية هذا الحب ما حيينا، فلا يتغامز علينا «المغامزون» بإصبع يرمي ب«التصابي»، أو يهمز ب«المراهقة»، فتلك محطات عبرناها بغير إنكار، ونستذكرها في معرض الاعتبار وتقويم الفؤاد على درب المحبة المطلقة، ففيها يكمن سر الحياة، وجوهر الخلود الأبدي.. محبة تريك في كل شيء جمالا يقودك إلى التسليم المطلق.. محبة تسيل الدمع رفقا، وتذيب القلب وجدا للقاء؛ بشغف فوار، ونبض وثاب. إنها رحلة بلا نهاية، ومقصد بلا إدراك، وسعي متصل ما دام الحياة على ما كانت عليها، موطن الكدح والعنت، والسعي الضارب وتدا في الكبد بتوصيف الله الأعز الأجل، ولكن لا محيد عن الرحلة، ولا عنها مفر، فليستعد كل قلب لعبورها بما أؤتي من طاقة الاحتمال، ومحركات الصبر، فإنه: ما عالج الناس مثل الحب من سقم ولا برى مثله عظما ولا جسدا