عالم الحشرات يحتوي على ما هو أغرب من الخيال. إبداع، وقسوة، ووحشية، وغلاسة، وغراميات، ودهاء.. وهناك حشرات «شرانية» بمعنى الكلمة، فهي متخصصة في الأذى بطرق إبداعية. وخلال الأيام الماضية وبسبب الأمطار الغزيرة التي هطلت على بعض أنحاء المملكة، والمياه الراكدة في العديد من الشوارع، نجد أن البعوض أصبح يدخل بيوتنا بكل سهولة ليفسد بيئتنا المنزلية بمنظره المقزز، وسرقاته لبعض من أغلى ما لدينا وهي صحتنا، ودماؤنا، وأعصابنا. هي حرب تاريخية بيننا وبين البعوض وقد بدأت منذ آلاف السنين وتسببت في مقتل آلاف الملايين من الطرفين. طبعا المقصود هنا هو الأنثى وبالذات في وقت الوضع. ذكور البعوض يعيشون على الرحيق، ويعشقون السكريات، ولا علاقة لهم بالعض والدماء وكل ذلك. يعني لو لديه ماء ببعض من السكر سيكون في قمة السعادة. وأما الأمهات فيبحثن عن الوجبات الدسمة المركزة بالغذاء الغني. ولكن الناموس محير للعلماء فهناك أشكال وأنواع تقدر بأكثر من 2500 وبعضها تكسر القواعد المذكورة أعلاه. بعضها لا علاقة لها بمص الدماء، وفي بعض الأنواع تجد أن الذكور تتقمص خصائص الإناث وتمص الدماء بالرغم أنها لا تحمل البيض. وبالتالي فلا فائدة من تلك الأذية لأنه كما ذكر أعلاه، الفائدة الأساسية للدماء بالنسبة للناموسة هي الوجبة الدسمة المركزة لصغارها. وآلية الحصول على تلك الوجبة تبدأ بروائع طيران هذه الحشرة العجيبة. طيرانها أقرب لطيران «الهيلوكوبتر» لأنه يعتمد على الرفرفة الجنونية لأجنحتها الستة. وبالمناسبة فهذا هو سبب طنة البعوض. ضرب الهواء وهو «رايح جاي» بذبذبة تصل إلى ستين مرة في الثانية سيولد الأصوات المزعجة التي تعلن عن شرورها ونواياها. وتعكس روائع الطيران لأنها تتطير بأريحية وفاعلية عاليتين. الملاحظ أن بسبب حجمها الصغير تتعامل الناموسة مع الهواء وكأنها تسبح في وعاء زيت. سرعتها غالبا لا تتعدى 12 كيلومترا في الساعة، ولكن براعة طيرانه الحقيقية تنعكس في قدراتها على حمل أوزان ثقيلة جدا نسبة إلى حجمها. ولنبدأ بالمقارنات: سيارتك العائلية لا تتعدى حمولتها على حوالى 20 بالمائة من إجمالي وزنها. ولو قارنتها مثلا «بوانيت الهايلوكس» ستجد أن حمولته القصوى في حدود أربعين بالمائة من إجمالي وزنه. وأما لو قارنتها بأبطال الرفع في عالم الطيران وأبرزهم البوينج 747 الجامبو الخاصة بالشحن، فستجد أن حمولتها لا تتعدى 35 بالمائة من إجمالي وزنها. وأما الناموسة فتصل إلى عشرة أضعاف ذلك!. تحمل من الدماء ما يعادل ثلاثمائة في المائة من إجمالي وزنها وتطير ثم تهبط على أسطح رأسية أو «مشقلبة» تماما إلى أن تتخلص من الماء في الدم لتخفيف وزنها. من أروع ما يكون.. في عالم الشر. وهناك المزيد، فهبوطها على أجسامنا يجب أن يكون في قمة النعومة والرفق وإلا فسنشعر بها ونقتلها طبعا. ولذا فعملية هبوطها هي من روائع الطيران، فهي تطير بتسارع يستشعر المسافة المتبقية للأسطح بحساسية ثم تلامس الجلد بأرجلها المنفرجة والمصممة على شكل حرف اللام «ل» لكي لا نشعر بها. وأما عملية سحب دمائنا فهي معقدة وفيها إهانة لنا لأنها تبصق علينا. وللإيضاح، فبعد أن تهبط وتغرز أنبوب سحب الدم، والمقصات التي ستقطع الأوعية الدموية للضحية، تخرج كمية لعاب لتخثير الدم للمحافظة على كل قطرة ثمينة منه. أمنية أتمنى أن يقينا الله عز وجل شرور هذه الحشرة الشرانية، ولكن هذا لا يمنع أن نتأمل في عجائبها فكل ما خلق الله عز وجل هو قمة الإبداع والإعجاز. وهو من وراء القصد.