كل دولة في العالم تعاني من شح الموارد. لا توجد دولة في العالم تتوفر فيها موارد كافية للإنفاق على متطلبات وجودها واستمرارها وإشباع حاجات مواطنيها وتوفير احتياجات أمنها وخدمة مصالحها الخارجية. حتى الدول العظمى، لا يمكن لها أن تعتمد على مواردها الذاتية في الاستجابة لمتطلبات أمنها وإشباع حاجات مواطنيها وخدمة مصالحها الخارجية. لهذا السبب تلجأ الدول لمنظومة الأحلاف الإقليمية والدولية وإلى خيار التكامل مع جيرانها الإقليميين. فالعملية، بلغة الاقتصاد، مادية بحتة. ندرة في الموارد تواكبها ازدياد في المطالب لإشباع حاجات أساسية، في مقدمتها الأمن، وفي بعض الأحيان، حاجات ثانوية. طالما أن أمن الدول يأتي في قمة أولويات مهام أنظمتها السياسية، وهو وثيق الصلة بمبررات وجود الدولة نفسها وضمان استقرارها واستمرارها، فإن الدول عادة ما ترصد الجزء الأكبر من موارد ميزانياتها من أجل الإنفاق على متطلبات الأمن، تصل في بعض الدول إلى ما يقرب من ثلث ميزانياتها. لكن مهما بلغ إنفاق الدولة على الأمن، فإن توفير الأمن اللازم لها، يفوق في كثير من الأحيان موارد الدولة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، خاصة إذا ما كانت الدولة كبيرة المساحة وكثيفة السكان. بل إن الدول الصغيرة تعاني من مشكلة أمنية أكثر تعقيدا، خاصة إذا ما كانت محاطة بدول كبيرة وقوية، بالإضافة إلى أن صغر مساحة الدولة تعني فقرا في الموارد وشحا في البشر، مما يضاعف من مشكلتها الأمنية. إلا أنه في كل الأحوال، في ما يخص المشكلة الأمنية للدول، فإنه كقاعدة عامة تعد المشكلة الأمنية من أكثر المشكلات الاستراتيجية التي تواجه تحديات الدول وبقائها واستمرارها، بما في ذلك الدول الكبرى. لذا، منذ القدم، تواجدت ظاهرة التحالف بين الدول لخلق ما يشبه التكتل الإقليمي من أجل الدفاع المشترك، لزيادة قدرة أعضاء تلك الأحلاف على زيادة كفاءتها وفاعليتها في الدفاع عن أمن أعضائها. وقد تحتاج الدول القوية نسبيا اللجوء إلى صيغة الحلف العسكري أكثر من الدول الأصغر حجما والأضعف من حيث الموارد. التاريخ مليء بصيغ التعاون العسكري بين الدول الأكبر والأصغر تحت صيغة الدفاع المشترك، وإن كان الأمر في حقيقته إيجاد مبرر قانوني وأخلاقي لاستغلال الدول الكبرى لضعف وحاجة الدول الصغرى الأمنية الملحة لتوسيع نفوذ وانتشار وتوسع تلك الدول الكبرى. المعاهدات بين الدول الاستعمارية والكيانات المستعمرة كانت تأتي في صيغة معاهدات للدفاع المشترك. إلا أنه بعد زوال ظاهرة الاستعمار وانتشار نموذج الدولة القومية الحديثة في بداية القرن العشرين، ظهر هناك صيغ من التحالف الإقليمي في النواحي العسكرية بين الكيانات الحديثة ذات الصلات الجغرافية المتقاربة. وعادة ما تستوجب صيغة التحالف الإقليمي العسكري الاتفاق بين الأعضاء في الحلف العسكري على عدو مشترك يهدد أمن الدول الأعضاء في الحلف لدرجة أن يحتاج الأمر لإيجاد صيغة من التعاون العسكري بينها يتجاوز محاذير متطلبات السيادة الضيقة. وعادة، لقصر موارد كل دولة على حدا لمواجهة هذا العدو المشترك من حماية نفسها وحدها من هذا العدو المشترك تضطر هذه الدول مكرهةً للدخول في علاقة تحالف في ما بينها، أو تعمل على إيجاد حالة تحالف مع قوى خارجية، لتجاوز خطر هذا العدو الذي لا تستطيع مواجهته بمفردها. في عالمنا العربي ومنذ بروز صيغة الدولة القومية الحديثة بداية القرن الماضي وحتى نهاية الحرب الكونية الحديثة، ظهر في الأفق تحدي قيام إسرائيل كأخطر تحدٍ أمني يواجه الدول العربية منفردة أو مجتمعة. وبعد فشل مشروع الوحدة الكبرى لاح في الأفق احتمال التعاون الإقليمي بين الدول العربية ليس فقط في مجالات التعاون البيني بين اقتصاديات الدول الناشئة من أجل تجاوز تحديات التنمية التي تواجه مجتمعات الدول العربية، بل من أجل تحدٍ أكبر يطال أمن هذه الدول، ألا وهو ظهور إرهاصات قيام دولة في يهودية في قلب العالم العربي لا تعدو شوكة يتركها الاستعمار في خاصرة العالم العربي، لتحول بين أعضائه والوحدة بينها، لتشكل خطرا استراتيجيا ناجزا يستنزف موارد النظام العربي الجديد في الإنفاق على الأمن على حساب الإنفاق على أوجه التنمية. وكان الخيار الإقليمي، آنذاك قيام جامعة الدول العربية، كأول كيان إقليمي على مستوى العالم، بل إن إنشاء الجامعة العربية، كان قبل إعلان قيام الأممالمتحدة نفسها. مع الوقت لم تعد إسرائيل هي العدو الوحيد للعرب، بل توارت مرتبة إسرائيل في تقييم خطرها على أمن العرب، لصالح دول إقليمية في المنطقة، بل وحتى لصالح تنظيمات غير نظامية في شكل مليشيات خارجة عن صيغة الدولة القومية الحديثة، لتهدد أمن العرب القومي. مع هذا التغيير في تقييم من هو العدو للعرب في الوقت الحاضر، بعد أن احتلت إسرائيل مرتبة متأخرة، لو مؤقتا، لصالح قوى إقليمية أخرى وتنظيمات غير رسمية خارجة، تغيرت خريطة التحالفات الإقليمية في المنطقة، وحتى بين أعضاء النظام العربي نفسه... هذا ما سوف نعرض له في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال الثلاثاء القدم، بإذن الله.