نقلت إحدى الصحف فتوى لأحد المشايخ أن مراجعة النساء للأطباء بلا محرم محرمة شرعا، كما أوردت أن رجال هيئة الأمر بالمعروف منعوا النساء من مراجعة مركز تغذية صحي بدون محرم. والعلة في هذا التحريم عند رجال الهيئة أن الطبيب يكشف على المرأة وجسدها وربما العورات المغلظة، وهذا لا يجوز بدون محرم. والأصل الذي عليه تصرفات الناس وعاداتهم وأخلاقهم ما شرعه الله لهم في كتابه العزيز وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام بأقواله وأفعاله أن المرأة الطبيبة هي التي تكشف على المرأة وتعالجها ولكن إذا لم يتيسر ذلك فإن شرع الله سبحانه وتعالى أذن لاتخاذ كافة التدابير اللازمة للحفاظ على سلامة الإنسان من وقوع الضرر عليه كما قال تعالى (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه). ولقد تكرر معنى إباحة المحرمات عند الاضطرار في خمسة مواقع في كتابه العزيز فيما يتعلق بما يحرم على المرء أكله. بل جاءت آية على إطلاقها بإباحة المحرمات أيا كانت في حالة الاضطرار، كما قال تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). قال الشوكاني في تفسيره (2/156) (إلا ما اضطررتم إليه) أي من جميع ما حرمه عليكم فإن الضروره تحلل الحرام، والشريعة مبنية على إزالة الضرر عن الناس وكلها مصالح للبشر، وهذه المصالح موزونة بميزان الله وميزانه مبني على القسط، ويؤكد الغزالي المستصفى 1/287 أن المصلحة تعني المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فالنفس تأتي في مرتبة بعد الدين وقد جاء في هذه الآيات إباحة أكل الأنعام التي تذبح على النصب، أي الأصنام وما أهل به لغير الله في الذبح. وهما من عادات المشركين، بل هي الشرك، وهو أكبر الكبائر وأعظمها ومع ذلك أباح الله فعل ذلك في حالة الاضطرار بل من تلفظ بألفاظ الكفر وهو مؤمن فلا إثم عليه في حال الاضطرار كما قال تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). قال القرطبي فيما نقله الشوكاني في تفسيره (3/196) على أن من أكره حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر. ولقد كان المشركون يعذبون الضعفاء الذين اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة وكان ممن عذب عمار بن ياسر، فلما تلفظ لهم أي للمشركين بألفاظ الكفر وتعظيم أصنامهم تركوه ونجى من الموت. قال الزمخشري الكشاف (2/429) (أما عمار فقد أعطاهم - أي المشركين من قريش - ما أرادوا من ألفاظ الكفر وتعظيم أصنامهم بلسانه مكرها فقيل يا رسول الله إن عمار قد كفر، فقال عليه الصلاة والسلام كلا إن عمار مليء بالإيمان من قرنه إلى قدميه واختلط الإيمان بلحمه ودمه) فأتى عمار رسول الله يبكي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول ما لك إن عادوا فعد لهم بما قلت) وجاء في التحرير والتنوير (14/292) وأما قوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.. فهو ترخيص ومعذرة لما صدر من عمار وأمثاله إذا اشتد عليهم عذاب من فتنوهم. وخلاصة كل ما تقدم من الآيات وشروحات العلماء أن فعل المحرمات أيا كانت يباح فعلها في حال الاضطرار، وعليه فإن ما ذهب إليه الشيخ في غير محله فإن كافة حالات مراجعة المرأة للطبيب لا تكون إلا في حالات الضرورة، واشتراط المحرم أيضا في غير محله فإن أنظمة الدولة لا تسمح للطبيب أن يكشف على المرأة إلا بوجود الممرضة، وهذا ينفي حالات الخلوة بالمرأة الأجنبية. من جهة أخرى فهل يجوز لهذا المحرم إن كانت المرأة أخته أو ابنته أو أمه هل يجوز له أن يتكشف على عوراتها ويدخل مع الطبيب غرفة الفحص، وماذا عن دخول المحرم إلى غرفة العمليات؟ عندما أصيب سعد بن معاذ في الخندق قال الرسول اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، ولو كان الأمر محرما لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكانت تستقبل الرجال والنساء وتداويهم زمن الحرب والسلم. فكان من الأكمل والأجمل في حق الشيخ أن يتطرق إلى الاستدلال بمصادر الشرع وحيثياته حول هذه القضية بدلا من عبارة (محرمة شرعا) وشرع الله واضح وضوح الشمس ولا يكتنفه أي أسرار ولا خصوصيات لأحد دون أحد. وإطلاق عبارة (محرم شرعا) دون ذكر الاستدلال يوحي بأن لدى القائل علما لا يعرفه أحد، وهذا خلاف الأصل في شرع الله وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فالوضوح والبيان أصل في شرع الله سبحانه وتعالى.