لقد رغب الله تعالى في بناء المساجد، ورتب الأجر على عمارتها، إلا أننا يجب أن نعلم أن أبواب الخير والإحسان لا تنحصر في بناء المساجد فقط، فالمشاريع الأخرى العامة التي تنفع المجتمع في الجوانب المختلفة عبادة وخير مطلوب حتى ولو كان بعضها أفضل من بعض. ومن يتأمل واقع مساجدنا من حيث كثرتها وتقاربها، يجد أن الكثرة والتقارب تتناقض مع رسالة المسجد الحقيقية وأدواره وأهدافه؛ فتعدد المساجد وقرب بعضها من بعض بشكل مستغرب يقلل عدد المصلين فيها، ويجعل عمارة البنيان تطغى على العمارة الحقيقية. كما أن قناعة البعض بالاقتصار على بناء المساجد دون الاهتمام بنظافتها وصيانتها وبجوانب الخير الأخرى يعتبر خللا حقيقيا في تضييع الصالح العام، وهنا تأتي مسؤولية الجهات المعنية بمنح تصاريح البناء وضرورة تحريها فيما يخص بناء المسجد فلا يتاح بناء مسجد على حساب الرسالة السامية للمسجد بل يرشد المتبرع إلى ما هو أولى. إننا نرى الكثير من المساجد التي تقام في الطرقات ومحطات الوقود تعيش حالة إهمال قصوى حتى أصبح المصلى بحال مزرية؛ سواء في دورات المياه أو فراش المسجد، لغياب النظافة والاهتمام به حتى أصبح الكثير منها في حالة يصعب معها تصديق أن هذا بيت من بيوت الله وكأن العناية والنظافة غير مأمور بها شرعا. إنه لا بد من الاعتدال في البناء ليكون حسب الحاجة، فيجتنب الإسراف في كثرة المساجد مع تقاربها أو بناء المساحات الكبيرة لغير حاجة أو المبالغة في التزيين، كما يحسن ترك العزل بشكل تام لمكان النساء فيكفي أن يكون لهن مدخل خاص في آخر المسجد كما فعل عمر رضي الله عنه، والأقرب للهدي النبوي ترك ذلك كله وهو مع موافقته الهدي النبوي يختصر كلفة غير مطلوبة، وترك العزل الكلي فيه مصالح كثيرة فهو أبعد عن أي خطر أمني وأكثر أمنا للنساء من وحشة الانفراد التي لن تجد معها المصلية وذووها الطمأنينة في الصلاة بمكان معزول تماماً، وإذا كان ولا بد فيمكن أن يكتفى بساتر مناسب بسيط تتحقق به الرؤية المعقولة ويمكن معه سماع الصوت مباشرة فذلك يكفي ويتيح الاطمئنان ومتابعة الإمام برؤيته أو برؤية من يرى الإمام، وفيه فائدة أنه لن يربك المصليات عن متابعة الإمام في حالة تعطل مكبرات الصوت. إنه لا بد أن يعلم الناس أنه ليس من الدين التوسع في بناء المساجد على حساب رسالته وأهدافه ومقاصده، ففي عهد النبي عليه السلام وفي أوج ازدهار الدولة الإسلامية لم يكن ذلك التوسع، وإنما يحفل الدين بالثناء على الذاكرين والساجدين وعُمّار المساجد بالعبادات كلها، وينهى عن الإسراف ببناء ما لا يحتاج إليه أو المبالغة في تزيين المساجد وزخرفتها. فليس القصد التفاخر وطلب تعجب الناس ومديحهم وحديثهم في المجالس لما في المسجد من ثريات أو ألواح رخامية ذات أشكال وكتابات وألوان زاهية ومزخرفة فضلا عن إهمال لما هو أحوج للصالح العام. إننا نحتاج إلى ثقافة تحيي المفهوم الواسع للعمل الخيري والوقف المتنوع، فلا يقتصر في ذلك على بناء المساجد دون بناء العقول، فما معنى أن تفقد المكتبات والمراكز الثقافية والمرافق العامة للصالح العام؟ هل هو افتراض للجهل بالمجتمع ورواد المساجد؟. إنه ينبغي الاهتمام ببناء المكتبات العامة، والمرافق الصحية، ودور الأيتام، والأرامل، ودور تحفيظ القرآن والعلم والتعليم بأنواعها، والاهتمام بنظافة المساجد وفرشها، ومساعدة الشباب والفقراء، ودعم كل مشاريع الخير والأوقاف الخيرية المتنوعة فكلها مطالب شرعية. والواجب أن تطور قوانين العمل الخيري والتبرعات والوقف بحيث تشمل كل الجوانب التي تمس حاجة المجتمع وتكون هناك جهة تشرف على صحة استخدام الأموال المتبرع بها وتوجه أصحاب الفضل للقيام بكل ما ينفع المجتمع واحتياجاته حسب أولوياته وتعليمهم أن كل ذلك يقع في سبيل الله، فكل ما ذكر يندرج تحت عمارة المساجد الحسية لتحقيق العمارة المعنوية.