تتعدد المواقف اليومية التي تنعكس شخوصها في ذاكرتنا، فتتقاطع تلك المواقف اليومية مع ما هو عالق بالمخزون في تلك النفس البشرية، التي تجعله في ذاكرة وحافظة لتلك اللحظات. هذه حقيقة التقنيات الحديثة، فهي لم تخرج من حقيقة إبداع الخالق سبحانه وتعالى، بيد أن نفوسا بشرية كرست نفسها للخلق والإبداع، ونفوس بشرية أخرى تركت الكليات الإبداعية، وأغرقت نفسها في جزئيات الجزئيات. تلك اللحظات المؤلمة، التي تقبع في مخزون الذاكرة، تكون منتظمة مع اللحظات التاريخية المكونة لكل سكناتنا وحركاتنا، فالنفس البشرية في وجودها بهذا العالم تتكون من مجموعة من اللحظات، بما فيها من مشاعر وأحاسيس ورؤى وتصورات، التي تعيشها وتتنفسها تلك الأرواح الإنسانية. وتتفاوت النفوس البشرية، سواء في معارفها أو في رؤيتها لما حولها من العوالم، بقدر ما تقتنصه من تلك اللحظات التي تمر مرورا سريعا، لا تكاد تشعر بها تلك النفس البشرية إلا بعد أن تُلح رغباتها، وتدرك إدراكا يقينيا أنها بحاجة لتلك اللحظات، بيد أن تلك اللحظات المراد إدراكها قد ذهبت ولن تعود إلى الأبد، فلات حين مناص!!. إلا أن خالق النفس البشرية أودع فيها قدرة هائلة على إمكان خلق اللحظات المرغوب في إعادة إنشائها، فتتكرر، إلا أن الصفات والمميزات للحظات التي أنقضت، وأصبحت ماضيا يُحكى، ليست متضمنة تلك اللحظات الفائتة، رغبة منها في إدراك ما فاتها، وتصحيح ما تعتقد أنه كان خطأ فادحا. أخفقت تلك الذات في معرفة مدارك المسار الصحيح في تلك الأحداث، وما نعيشه من لحظات ونتفاعل معها، وهي ما نملكه ونتحكم فيه بجميع عناصرها إلا الخارج عن قدراتنا البشرية أو الإمكانات التي في محيط تصرفاتنا المهيأة لنا، والمدركة كل ما نملكه من عناصر إنسانية مادية ومعنوية. لذا، فإن ما نشعره من ألم وحسرة على فوات لحظات سابقة، لم تعد في محيط قدرتنا، وليس في وسعنا إعادتها، هو شعور محبط ومؤلم، بل وهو المسار الذي يكبح طموحات النفس البشرية في أن تتجلى وتسمو على اللحظات المؤلمة والحزن العميق، الذي لا تزال تجلياته محفورة في الذاكرة، ومنحوتة في الروح، التي لا تزال منتصبة حية في هذا الوجود الزماني والمكاني. تلك الحالة من الإحباط، التي طوقت الذوات بالإحباط والألم، إن أرادت أن تفك أسرار ذلك الطوق، وتستعيد حقيقة وجودها الزماني والمكاني الفاعل والمؤثر في مستوى حياتها البسيطة، كي تعيش في أمان واستقرار نفسي داخلي، فإنها (على الأقل من وجهة نظري) يتوجب عليها قراءة تلك الأحداث بكل عناية وتؤدة، والنظر والتأمل في كل عناصر وصور وتقلبات الوقائع الماضية، ومحاولة فهم كل ما يحيط باللحظات المؤلمة، ثم التسليم يقينا بأن الماضي لن يعود أبدا، وهذه من الحقائق المنطقية التي يتوجب على الذات الإنسانية أن تستصحبها ما دامت موجودة، تمارس اللحظات المتجددة. ومع ذلك التسليم بعدم العودة، يمكن أن تجعل من مسار لحظاتها الآنية والمستقبلية رؤية تنويرية، في ضوء ما لحق بها من سواد اللحظات الماضية التي كان فيها ألم وحسرة. ومع تذكر اللحظات المؤلمة، وكيفية الخروج من حسراتها وآلامها، يثور إشكال وتساؤل، وهو أن كثيرا ممن كتب سيرته الذاتية من الفلاسفة، وبعض المشاهير من ممثلين وفنانين، خصوصا من الغربيين، كانت لديهم صراحة فضائحية في عرض كل أسرار حياتهم، سواء ما كان فيها من السقوط الأخلاقي أو حتى التجريح في آخرين، بإبداء فضائح تمس كل شيء في كرامة ونزاهة الذات الإنسانية، وهذا يُبرره كثير ممن يؤيده بأنه صدق وصراحة وتنزيه للنفس، وتطهير لها من الذكريات المؤلمة. وفي ظني أن ذلك أصله نشأ من تأسيس ديني محض، وهو ما يسمى «الاعتراف» لدى رجل الدين الغربي. فنحن نعلم يقينا بأن جل أو معظم الفلاسفة كانوا قد مروا على المسارات الدينية الغربية، بل إن بعضهم درس وتخرج رجلا دينيا، ثم تمرد على تلك الطقوس الدينية، وأصبح بعضهم يُظهر في كتاباته أنه لا يؤمن بأي دين، وبعضهم يكتب لتقويض بعض الرؤى الدينية، والبعض الآخر أخذ يُثير صراعات فكرية في كثير من الإشكاليات الدينية الغربية. إلا أن هؤلاء المفكرين والفلاسفة لم يتحرروا كلية مما علق في أرواحهم وذواتهم من رؤى وتصورات دينية، حيث ظلت بعض التأثيرات الدينية في تلك الأرواح، وذلك لأن الدين والتدين له أثر كبير جدا في النفوس، فلا يمكن أن تتخلص النفس البشرية من تأثيرات الدين والتدين. لذا، فإن تلك الاعترافات الفضائحية، التي سطرها من كتب في سيرته، كان سببها التأثير الديني لما يسمى «الاعتراف» و«تطهير النفس». كذلك كان لمسار الفكر الليبرالي التحرري - الذي ساد منذ القرن الخامس عشر حتى تبلور بشكل صارخ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر- أثر عميق في جعل المفكرين والكتاب الذي يسطرون سيرهم الذاتية أن يمارسوا تطهرا فضائحيا، حيث كانوا يمارسون الإغراق المخل في تفاصيل لا تمت لتطهير الذات الإنسانية بأي صلة، وذلك لأن السير الذاتية ليس المقصود منها حكاية كل ما يخل بالذات البشرية، وإسقاط كرامتها وتدنيسها، فهناك فرق بين كتابة وقائع التاريخ للمؤرخ الذي يورد القصص والشواهد والأحداث، لتوضيح ما وقع من ظلم وتعسف، وبين مفكر وكاتب يتذكر حياته ومسيرته، فيحق له ذكر تاريخه ومسار حياته، وما فيه من ذكريات مؤلمة عدا الفضائحية، فهي لا تمت لكتابة السير الذاتية. والفرق بين الفكر الغربي، الذي يتخبط في كل ثنايا المسارات والرؤى والتصورات المبررة لأفعاله، دون قيد أو شرط إلا ما كان شرطا أو قيدا إنسانيا فيما زعموا، وبين الفكر المتقيد بأحكام الشريعة ومبادئها، أن الشريعة جاءت بشيء يتوافق مع تضميد جراح الذكريات واللحظات المؤلمة، وهو «الستر». لا شك أن قيمة ومبدأ «الستر» يكون على مستويات، فأولاها الستر على الذات والروح الإنسانية الذي ينبع من الذات والروح نفسها، فأول علاجات اللحظات المؤلمة والحزن أن تكون تتمتع النفس البشرية بقيمة الستر عليها هي، وما أن تُخرج النفس البشرية ما كان مستورا عن العوالم الأخرى إلا ويصاحبها الألم واللحظات الحزينة، ذلك لأنها تخلت عما كان بلسما لتلك اللحظات المؤلمة. وأستطيع أن أزعم أن قيمة «الستر»، التي جاءت بها الشريعة، من أعظم ما تميزت به، لأن فهم هذه القيمة فهما حقيقيا يجعل المجتمع يسير بتؤدة وحلم وطمأنينة وأمان، دون التعنت والتفتيش في ظواهر ودواخل الآخرين، وخلق إشكاليات فكرية ودينية من تصرفات قد ناقضت مبدأ وقيمة «الستر»، وهي قيمة تتشوف إلى تحقيقها هذه الشريعة الإسلامية. لذا، فإن اللحظات المؤلمة التي مررت بها كان علاجها هو - بعد التمعن فيها والتأمل بعمق - أن أُضفي عليها قيمة «الستر»، فإذا بهذه القيمة تُعيد ليّ تلك اللحظات مرة أخرى، بيد أن الألم والحزن كانا قد زالا واضمحلا وانطفآ، لأن تلك الذكريات المؤلمة تتراءى في كل لحظات التأمل، في ماضي الأحداث والتاريخ الذاتي، وكأنها جدار تم اختراقه في كل أنحائه، وبدا وكأنه شراع سفينة لم تعد تتحمل المد والجزر، لخروجها من كونها سفينة حقيقية، وأصبحت تحفة تليق بالمتاحف التي تقبض لمحات التواريخ، وذلك الجدار المخترق المحمل بالذكريات قد أنهك تلك الروح والذات الإنسانية، فهما في صراع مستديم، ولكي تبقى الذات الإنسانية مطمئنة لا بد أن تتمسك بقيمة «الستر» على ما مضى من لحظات مؤلمة.
