يبدو الندم كغيمة سوداء تُسافر في دمنا حتى إذا ما أمطرت أنبتت في القلب شوكًا، وإذا ما أبرقت كشفت الطريق إلى أبوابٍ لم نُحرّك كُوّتها أبدًا، أو كرسالة في زجاجة أرسلها بحر الماضي من شاطئه البعيد، فوصلت متأخرة بعدما جفّت الأحبار وتكسّرت الأمواج التي كان يمكن لها أن تحملنا إلى بر الأمان، أو كظلّ غروب لا يمتدّ إلا حين تبدأ الشمس بالزوال، فتشي بتطاول الأشياء التي لم ننتبه إليها إلا بعد فوات الأوان. إنّ الندم شعورٌ لا يزور القلبَ خلسة، بل يأتيه حاملاً صحائف عريضة يتلو فيها ما كان وما لم يكن. إنه أشبه بضيفٍ ثقيلٍ لا يطرق الباب أبدًا، بل يُداهمك على حين غرة، ويُحدّق فيك بنظراتٍ أنت تعرفها جيدًا ولا يُمكنك التملّصُ منها؛ حيث يعيش الندم على الحافة بين الحَرج القِيمي والجُرح الوجودي، وكأنّه حارسٌ للضمير وجلّادٌ للنفس في آنٍ معًا. فيتجمّد الزمن فجأة، وكأنك تأخذ العالم كلَّه معك لتلتفت به إلى الوراء؛ حيث ترى نفسك على مسرح الأمس تُمثل دورًا لو قُدّر لك أن تُعيد المشهد لشطبت وبدّلت وغيّرت. وهنا يتجلّى في هيئة داء يعتصر القلب، ويمتص الضوء من الروح، ويجعل الحاضر رهينة لخطأ مضى يتحرك بك في دائرة حرجة. ومن جهة أخرى قد يُطل الندم كمعلم حكيم لا كجلاد لئيم؛ حيث يتحوّل من سياط تُلهب الذاكرة إلى بوصلة تقودك إلى الطريق الصحيحة، فيصبح دواءً يُطهّر القلب من الغرور، ويغسل الفكر من الخطأ المكرور ، ويزرع فيك يقظةً لم تكن لتنالها لولا وخزة الألم. ومع ذلك فهو دواء لا يُعطى إلا لمن يروم الشفاء، أمّا مَن لا يكترث فإنه يشرب ندمه كمن يشرب البحر عطشًا لا يرتوي. ليس الندم إلا صورةً لموتين: فإمّا موت لما مضى إذا جعلك نحو لحظةٍ أنقى تُعيد ترتيب خُطواتك. وإمّا موت لما سيأتي إذا التهم أيامك وأذبل حياتك. إذ لا يكمن الفرق في الندم نفسه، وإنّما في الكيفية التي نعيشه بها. فهو قد يكون سمًّا زُعافًا إن تركناه يتراكم في أرواحنا بلا تصريف، وقد يكون ترياقًا شافيًا إذا حوّلناه إلى دافعٍ للتصحيح. والعجيب أنّ لحظة الفعل الأولى تتداعى ونحن غارقون في حرارة الانفعال، وكأنّنا أسرى ضجيج الرغبة أو الخوف أو الحاجة؛ إذ الوعي حينها يبدو غائبًا، فيأتي الندم متأخرًا؛ لأنّ العقل كان بحاجة إلى خريطة لما كان. من منظور فلسفي يطرح الندم أسئلته المُعقّدة: فهل نحن نندم لأننا كنّا أحرارًا في الاختيار فأخطأنا، أم لأننا لم نكن كذلك لكننا صدّقنا وهمنا؟ وهل كان المعنى حينها قابعًا في الحقيقة أم كان مُضللاً لها؟ وهل الندم تصحيح أم شَركٌ ذهني يُعيدنا مرارًا إلى المربع الصفر؟ إنّ الصراع الداخلي حول الندم يتمحور حول قطبين أساسين: قطب إصلاح الذات وقطب جلدِ الذات. وهنا تضجُّ المفارقة، فالندم قد يغدو دافعًا للنمو إذا ما ارتبط بفعل سليم، لكنه قد يُصبح عائقًا إذا ما تحوّل إلى تأمّل عقيم. وعلى مستوى أعمق، فإنّ صراع الندم يُشبه حوارًا بين "أنا" الماضي و"أنا" الحاضر؛ حيث نُحاكِم الذاتُ نفسَها بوعيٍ لم يكن مَعهودًا في لحظة الفعل الأولى. وكأنّ هذا الظلم الزمني للنفس يغدو باعثًا على تهشّم القلب وحسرته عندما نضطر إلى تقييم أحداث الأمس بمعايير اليوم. يرى هايدجر أنّ الإنسان كائن مُلقَى في الزمن، ومحكومٌ بحدّين: الميلادِ والموت، وبينهما "الآن" مُتمثّلةً في المجال الوحيد للفعل. فاللحظة الحاضرة في نظره ليست مجرد نقطة بين ماضٍ ومستقبل، بل هي فضاء الإمكانات كلِّها. فالندم لديه ليس إلا اعترافًا بأنّ الآن قد أُفْرِغَ من إمكاناته، إذ الندم بعد انقضاء مجال الإمكان لا يُغيِّر الكينونة، بل يُصبح مجرّد تأمل متأخر. أمّا من حيث هو العَوْدُ الأبدي لدى نيتشه، فإنّه يتساءل: ماذا لو عشت حياتك ذاتَها بكلِّ تفاصيلها إلى الأبد وبتكرارٍ لا نهائي؟ فلو كان كذلك، فهل كنتَ ستعيش الآن بطريقةٍ مختلفة؟ هو لا يرى ذلك! أمّا لدى الوجوديين مثل سارتر وكامي فإنّ الندم ليس ضعفًا، بل إنّه اعترافٌ بالحرية؛ حيث يتمحور الصراع النفسي هنا حول ثقل المسؤولية المتمثلة في الحرية الواعية، إذ ليس بوسعنا إلقاء اللوم على القدر أو الظروف. لذا يمكن القول إنّ الندم لا يزورنا إلا بعد أن تتبدد أوهام السيطرة، وطالما نحن نظن أننا قادرون على الإصلاح والتبرير فإننا نؤجل مواجهة الحقيقة. وفي النهاية، فإنّ فلسفة الندم لا تدعونا إلى شطب أخطائنا من الذاكرة فهذا مستحيل، بل أن نضعه في مكانه الصحيح من السردية الشخصية بوصفه جزءًا من الحكاية لا ختامًا لها.