حين نتأمل اللغة ندرك أنّها ليست خطًّا مستقيمًا ينقاد من الكلمة إلى المعنى، بل إنها شبكة احتمالات متداخلة؛ حيث لا تنغلق اللغة على دلالة واحدة، وإنّما تميل إلى التفلّت والانفتاح حتى وإن بدت ظاهريًّا مُحكمة ومضبوطة. يُعَدّ مفهوم الاحتمالية من أبرز المفاهيم التي تسلّلت من فضاءات الرياضيات والإحصاء إلى عدّة حقول معرفية ليس أقلّها اللسانياتُ وتحليل الخطاب. وإذا كان الرياضيون يعرّفون «الاحتمالية المستقلة» (Independent Probability) بأنها الحالة التي لا يؤثر فيها وقوع حدثٍ على احتمال وقوع آخر، فإنّنا في حقل اللسانيات نستطيع أن نعيد صياغة الفكرة على نحو مختلف، فاللغة ذاتها تمتلك طاقة احتمالية داخلية مستقلة نسبيًا عن المؤثرات الخارجية التي تجعلها قادرة على توليد معانٍ وتفسيرات دون أن تكون مرتهنة دائمًا للسياق المباشر. ففي قلب علاقة الإنسان باللغة يكمن سؤال الاحتمال: كيف يمكن لكلمةٍ واحدة أن تنفتح على احتمالات لا تحصى بينما يبقى المتلقي في كل مرة أمام اختيارٍ وحيد هو المعنى الذي ينسجم في وعيه لحظة السماع أو القراءة؟ إنّ اللغة في جوهرها ليست معادلة مغلقة، بل نظام احتمالي مفتوح يتداخل فيه الدايكروني بالسايكروني، والقصد بالتأويل. فمنذ القدم لاحظ اللغويون أنّ الكلمة لا تحمل معنىً واحدًا جامدًا، بل تسبح في فضاء دلالي متعدّد. يقول ابن جني في الخصائص: «أكثر اللغة على قياسٍ مطّرد»، إذ البنية نفسها تقوم على إمكان التوليد والاحتمال، وهذه الإمكانات تجعل من اللغة فضاءً غير مكتمل، أي فضاءً يشتغل بالقابلية على نحو مستمر. وهنا يتجلّى ما يمكن أن نُسميه الاحتمالية المستقلة، بمعنى أنّ اللغة قادرة على توليد معانٍ حتى دون استدعاء السياق الخارجي. ولذا فإنّ هذه القابلية للتوليد تكشف عن عدم النسقية المُغلَقة للغة كونها بنية احتمالية تُنتج إمكانات دلالية تتجاوز حدود المعجم الثابت. ومع ذلك، فاللغة ليست مطلقة الاستقلال، وهي وإن امتلكت هذه القدرة الذاتية تظلّ مرتهنة بعالم التجربة الإنسانية أو الاستعمال. وكأنها في لحظة الخلق الأولى تمنحنا حرية غير مشروطة، ثم سرعان ما تُقيدنا بضرورات الفهم والتفاهم. ولذا فإنّ الحديث عن «احتمالية مستقلة» في اللغة لا يعني الانفصال المطلق عن العالم أو عن السياق التداولي. فاللغة على نحو ما يؤكد ابن تيمية في الرد على المنطقيين لا تنفك عن المعنى المراد من المتكلم ولا يُمكن فصلها عن قصدٍ أو غرض. لكن استقلاليتها الجزئية تكمن في كونها تحمل إمكانات داخلية مُتاحة للقارئ أو السامع حتى قبل أن يستدعي سياقًا خارجيًا. تشبه اللغة على هذا النحو الاحتمالي ألعاب النرد أو قوانين الاحتمالات في الرياضيات غير أنّ الفرق الجوهري يكمن في عدم كون اللغة أرقامًا صامتة، بل إنّها محمولة على الوعي والعاطفة والثقافة؛ حيث إنّ الاحتمالية المستقلة في الرياضيات صُمّمت كي تنفصل عن المؤثرات الخارجية، أمّا في اللغة فهي طاقة داخلية تعكس ثراء الذاكرة الجمعية والتجربة الإنسانية. إن الاحتمالية المستقلة في اللغة ليست محضَ لعبة ذهنية، وإنّما هي تقاطع بين العقل والوجدان، فهي من ناحية تعكس قوانين النظام اللغوي الذي يسمح بالاشتقاق والتوسع، ومن ناحية أخرى تستدعي المخزون النفسي والثقافي؛ حيث إنّ العقل يستند إلى القواعد التي تُتيح الاحتمال، أمّا الوجدان فيستثمر الرموز والإيحاءات ليمنح الكلمة ثراء يتجاوز ظاهرها. وهكذا يظل النص مفتوحًا أمام تعدّد التأويلات. ومن زاوية فلسفية يُمكن النظر إلى الاحتمالية المستقلة بوصفها وجهًا من وجوه الحرية الوجودية، فإذا كان الإنسان يعيش في عالم من الإمكانات التي لا يختار منها إلا مسارًا واحدًا، فإنّ اللغة تُشاركه هذه الطبيعة، فهي بدورها تُقدّم أكثر من طريق للمعنى، لكنها لا تُنجِز إلا ما نختاره بالفعل. أمّا ثقافيًا، فالاحتمالية المستقلة تُذكّرنا بأنّ اللغة ليست مجرد وسيطِ سيطرة أو تقييد، بل إنها فضاءُ مقاومة أيضًا، فالمعنى الذي يقترحه المتكلّم قد لا يكون هو المعنى الذي يتبنّاه المتلقي. إذ إنّ هذه القابلية هي ما يُفسِّر ثراء النصوص الأدبية والفكرية، فقصيدة تُقرأ في القرن الثالث الهجري تُستعاد اليوم في ضوء احتمالات دلالية جديدة دون أن يتغيّر نصها حرفيًا، وهذا ما يجعل الشعر والنصوص الفلسفية قابلة للتأويل عبر العصور لا لأن معناها قد تغيّر، بل لأن بنيتها الاحتمالية تسمح بذلك، فكلّ قارئ يختار من بين الإمكانات ما يُناسبه وإن بدا النّص ظاهريًّا نفسه.