رحل سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد بن عبداللطيف آل الشيخ سليل بيت العلم تاركا خلفة ذكريات عطرة، حيث عرفت سماحة الشيخ عبدالعزيز منذ أن كنت في أوائل العشرينات من عمري، وذلك في اتصال هاتفي أسأله وأستفتيه في مسألة شرعية اجتماعية. وحيث إنني من أسرته فلم أوضح له اسمي، فلما سألني عن اسمي قلت له: أحد المواطنين، فقال لي: مرحبًا بأحد المواطنين. فلما عرضت عليه سوالي قال لي صلي معي في المسجد الذي يؤمه في الفروض خلف المحكمة السريعة في مبناها القديم، منذ ذلك الحين بدأت علاقتي بسماحته، وكان وقتها ما زال أستاذًا في كلية الشريعة، ولكنه كان مرجعًا للناس في الفتوى والسؤال عبر الهاتف وفي مجلسه ومكتبته. كان الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله- شخصية قلّ أن تجد مثلها، ليس لندرة صفاتها فقط ولكن لطيب ذاته ونقاء سريرته. فالذي عاشره أو اجتمع به أو جالسه أو صادقه أو حضر دروسه أو ساكنه أو سافر معه يجد رجلاً متميزًا في أخلاقه وعلمه وتعاملاته. أما في طلبه للعلم، فبعد أن من الله عليه بحفظ القرآن العظيم، فقد مر بأقوى المدارس العلمية، وأكثرها أثرا في شخصيتة العلمية والشرعية وهي ملازمته ودروسه كان عند سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب مفتي الديار السعودية. ورغم أنني لم أدرك الشيخ محمد بن إبراهيم إلا أني كنت أسمع من الشيخ عبدالعزيز ثناءه الكبير عليه وإعجابه بالشيخ محمد بن إبراهيم وبعظمة شخصيته وقوة حجته وبيان دروسه، وكان يذكر أن لهذه الدروس أثرًا عظيمًا في تكوينه العلمي وفقهه وفهمه لمقاصد الشرع، وكان يجلّه كثيرًا ويترحم عليه مرارً، هذا إلى جانب تعليمه النظامي في كلية الشريعة، فرغم أنه لم يُكمل الدراسات العليا بالنظام الأكاديمي، إلا أنه بلغ مكانة علمية عالية جعلت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ترى فيه الكفاية العلمية بمناقشة طلاب الدراسات العليا والإشراف على رسائلهم إيمانًا بفقهه وفهمه العميق للشرع. فقد تخرج من تحت يده العشرات من طلاب العلم والفقهاء كانوا بعد ذلك قضاة ووزراء ومفتين. وقد فتح الله عليه في فن الخطابة فكان خطيب الرياض الأول في جامع الإمام تركي بن عبدالله، حيث كانت خطبه -رحمه الله- تنقل عبر الإذاعة السعودية ليصل صداها إلى أرجاء المملكة والعالم الإسلامي. وهو أيضا خطيب عرفة المعروف لخمس وثلاثين سنة حتى صار كثير من المسلمين في العالم يربطون خطبة عرفة بصوته وأسلوبه وبلاغته، إذ تولى منبر عرفة العظيم الذي هو منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت خطبه عالية القدر، عظيمة النفع، شاملة جامعة، لا تترك صغيرة ولا كبيرة من شؤون المسلمين إلا تناولتها. كان يبدأ بالتأكيد على العقيدة والتوحيد وإخلاص العبادة لله، ويمتد إلى تطبيق الشريعة وأهمية الفقه في الدين، ثم يعرج على مشكلات الأمة ومستجداتها. فكانت خطبه -رحمه الله- تذكّر السامعين وتفتح بصائرهم، ويشهد لها الجميع بالروعة والجمال وعلو القدر. لقد كان سماحته مثالًا في الفهم الشرعي، عارفًا بإنزال المسائل على مقاصد الشرع، وهذه ميزة مهمة جدًا للمفتي الذي يواجه أسئلة الناس ومستجدات العصر، فيربطها بمقاصد الشريعة ويراعي مرادها. وقد كان محبًا للنصيحة، يقدّمها دائمًا في السر لا في العلن، سواء كانت لولاة الأمر أو لطلبة العلم أو لأبنائه أو لأرحامه أو لمن قصده يستشيره. لم يكن يُحب أن يوبّخ أحدًا أمام الناس، وكان حريصًا على الأدب والرفق وحسن التعامل، حتى أحبه كل من حوله من الخاصة والعامة بمختلف طبقاتهم. ومن أبرز صفاته -رحمه الله- الانضباط التام في أداء مهامه ووظائفه، سواء في الإمامة أو الخطابة أو في عمله الإداري والشرعي. كان يقدر الالتزام ويراه الطريق إلى العاقبة الحميدة، ولذلك لم يكن يتساهل في ترك مسجده أو التهاون في واجباته. وكان -رحمه الله- بارعًا في تنظيم وقته، يخصص لكل جانب من حياته نصيبًا؛ وقتًا لأهل بيته وأبنائه وأرحامه، ووقتًا لطلابه، ووقتًا لمسجده وعبادته، ووقتًا لقراءة القرآن الذي لم يكن يترك ورده منه يومًا، فإن تأخر عن قراءته في بيته بادر إلى التبكير بالذهاب إلى المسجد قبل الأذان ليقرأ. وكان معتكفًا في مسجده في رمضان، يؤم الناس في صلاة التراويح إلى سنين متأخرة من عمره، يرى أن العبادة حق لله وليست مرتبطة بالمنصب ولا بالشخص، بل هي واجب العبد تجاه ربه. وكان في عطائه وصدقاته مثالًا في الخفاء والإخلاص، لا يُظهر عطاءه أمام الناس، بل يحرص على ستره. وإذا جاءه شاب يطلب العون نصحه أولًا أن يتقي الله ويعمل، فإن وجد فيه الحاجة أعطاه تأليفًا لقلبه وحرصًا على أن يعفه الله عن سؤال الناس. وكذلك كان لا يرد طالب شفاعة، فإذا قصد أن يشفع لأحد طرق الأبواب بالحكمة وبالأسلوب الذي لا يترتب عليه مفسدة، ولم يكن يتأخر عن إجابة الدعوات متى سنحت الظروف، وكان يعقد الأنكحة لأقاربه وأصدقائه ومعارفه ابتغاء وجه الله. وكان يحرص على حضور الجنائز والصلاة عليها، قريبًا كانت أو بعيدًا، ويشارك في الدفن والدعاء للميت بدعوات صادقة مؤثرة، وقد سمعته بنفسي يدعو لوالدي -رحمه الله- عند قبره دعوات عاطرة فيها من الرحمة والاستغفار ما يشرح الصدر. ومن أعظم صفاته بره بوالدته، فقد كان بارًا بها مكرمًا لها، يعرف حقها ولا يقدم على طلبها طلب أحد كائنًا من كان. ظل ملازمًا لها في حياتها، مطيعًا لها، خافضًا جناحه لها، حتى توفاها الله في السنوات الأخيرة من عمره، وظل يذكرها بالخير ويترحم عليها. رحم الله سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمة واسعة، فقد كان قدوة في علمه وخلقه وعبادته وورعه، وكان نموذجًا للعالم العامل الذي يخاف الله ويؤدي أمانته، ويجمع بين العلم والرفق، وبين الحزم والرحمة، وبين النصيحة والإخلاص، وبين العبادة وخدمة الناس. وإنا لنشهد له بما عرفناه ورأيناه فيه، راجين أن نكون من شهداء الله في أرضه، وأن ينفعه الله بما نذكره به من صالح المناقب وما نرفعه له من دعوات القلوب والألسنة، فذلك أملنا في رب رحيم غفور كريم. * أستاذ الدراسات العليا للأعمال والإدارة الدولية، عضو مجلس إدارة جمعية الاقتصاد السعودية، ومستشار سابق في وزارة الاقتصاد والتخطيط