حياة الإنسان زمن مقسم إلى مراحل، يقضّيها الإنسان في أمكنة مختلفة بحسب طبيعة كل مرحلة ومتطلباتها، وقد شغل الأرض، فصار هناك تلازم بينه وبين المكان الذي كان يتدخل فيه لتعديله وفق احتياجاته لكي يحقق له الأمن والراحة، وتفاوتت ظروف البيئة، فوجد أمكنة أدخلت إلى قلبه الاطمئنان والسكينة، وأمكنة أخرى ملأت كيانه بالخوف والذعر، لذلك ارتبط المكان بفكر الإنسان ومشاعره طوال حياته. ويُعَدُّ الشعر من أبرز مظاهر الأنشطة البشرية التي جسدت الإحساس بالمكان، فسعى الشعراء إلى توظيف الأمكنة في إبداعهم الشعري بما يتلاءم مع حالتهم النفسية، ومع ما ينطبع لدى كل منهم من رؤية -أو تَذَكَّرِ- مكانٍ معين، فيصفه أو يصوّره في شعر محمَّلٍ بمعانٍ ودلالات وإيحاءات تضفي على المكان ما هو أكثر عمقاً. الظاهرية وتشكيله الهندسي، فيجعل للمكان روحاً وانفعالاً وأحاسيس، وكما يعيش الإنسان في مكان فيؤثر في تشكيل ذلك المكان وتفاصيل بنائه ومحتوياته، كذلك يؤثر المكان في أدق تفاصيل حياة الشاعر وتفرعاتها بما يحمله من حوادث آنيَّة في حياته أو ذكريات ماضية، لذلك تتجلى انعكاسات متنوعة للتأثير بين الشاعر ومكانه، وعلى هذا يرتكز كتاب: «تجليات المكان في شعر محمد إبراهيم يعقوب» للمؤلف: د. فوزي خضر، على العلاقة الحية بين الإنسان الشاعر والمكان». فالمكان في الشِّعر لم يحظ بنصيب مناسب من الدراسات، ويعد الشاعر محمد إبراهيم يعقوب من أهم الشعراء الذين أنجبتهم المملكة العربية السعودية، يعود ذلك إلى ثراء تجربته الفنية والحياتية وقدرته الفذة على التعبير عن التجارب الفريدة التي مر بها، وهو يحتفي بالمكان في شعره، يحتفي بالمكان العام الطبيعي منه والصناعي، ويحتفي بالمكان المخصص، ويركّز الضوء على المكان الأليف مثل الملاذ، وعلى المكان روع ما ينطبع ل المعادي مثل الباب الموصد، يتجول بِصُوَرِهِ المكانية بين الأرض والسماء وما فيهما من تر محمل بمعد أماكن وما بينهما، ويرتحل ما بين المكان المعنوي الخيالي والمكان الميتافزيقي، رابطاً بين المكان والحركة والزمن. وقد وجد المؤلف في دواوين الشاعر محمد إبراهيم يعقوب تجربة ثرية تحتاج إلى بحوث عدة، وهي تجربة شعرية متعددة الجوانب، وقد اهتمت الدراسات النقدية بالنصوص الشعرية اهتماماً كبيراً، إلا أن المكان بوصفه عنصراً أساسياً في النص الشعري لم ينل غير القليل من عناية الدراسات النقدية التي اقتصرت على تناول المقدمات الطللية في القصائد الجاهلية، بينما يوجد دور مؤثر وفعال في الشعر العربي في عصوره المتتالية، ومنه الشعر المعاصر الذي يُعد محمد إبراهيم يعقوب من مبدعيه ذوي المكانة المرموقة. يطمح هذا الكتاب إلى الغور في الأعماق، واكتشاف الأبعاد التي تكشف تجليات المكان في شعر محمد إبراهيم يعقوب، من خلال تعبيره عن الأمكنة التي عاش فيها أو التي مر بها في رحلاته إلى البلاد المختلفة، حيث عبّر الشاعر عن وجودٍ فاعل للمكان، يمكن تَلَمُّسُ حضوره وتفاعله بما يمتلكه من قوة وتأثير في عناصر القصيدة من لغة وموسيقا وتصوير.