تأتي اضطرابات الشحن في البحر الأحمر في توقيت سيئ للغاية للاقتصاد المصري، والذي يعتمد بشدة على إيرادات قناة السويس، التي تعبرها 19 ألف سفينة سنوياً، مما يؤشر على حجم إسهاماتها الكبيرة في دعم الخزانة الحكومية بالعملة الصعبة، في الوقت الذي تعاني فيه أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان من شح الدولار، وتراجع تحويلات المصريين بالخارج، وتشير التقديرات الأولية إلى أن خسائر مصر من الأزمة تصل إلى 150 مليون دولار، وهي عبارة عن الإيرادات الضائعة نتيجة تراجع حركة المرور عبر قناة السويس، حيث هبط عدد السفن المارة بالقناة بنسبة 40 % في أول 11 يوماً من شهر يناير، مقارنة بعدد السفن المارة خلال نفس الفترة من العام الماضي، وهذه تعتبر ضربة قوية للإيرادات المصرية بالنقد الأجنبي، إذ بلغت إيرادات القناة 9.4 مليارات دولار في 2023، وهذا الرقم يمثل ثمن إجمالي الصادرات، وقيمة الواردات المصرية في شهر ونصف. رغم أن هذه الخسائر تعد طفيفة من الناحية النظرية، إلا أن هناك عاملين يثيران قلق مصر، الأول، هو الاستمرار في مواصلة نزيف الخسائر، وعدم وجود أفق لانتهاء الأزمة، ففي الوقت الذي يواصل فيه الحوثيون مهاجمة السفن، تنصح الولاياتالمتحدة وبريطانيا السفن بتجنب مضيق باب المندب، وهذا يعني إيرادات ضائعة تقدر بحوالي 25 مليون دولار يومياً، أما العامل الثاني، فهو أن خسائر قناة السويس تفاقم من أزمة شح الدولار، حيث يتم تداول العملة الخضراء في السوق السوداء الآن بنحو 60 جنيه، أي ضعف سعر الدولار في البنوك الرسمية، التي تكثف البنوك القيود المفروضة على المعاملات الدولية، كما أن استبعاد مصر من مؤشر "جيه بي مورجان" للسندات قد يؤدي إلى خروج بعض التدفقات الأجنبية. وفي وجه الأزمة المتفاقمة، زادت مصر رسوم عبور قناة السويس، حيث تراهن السلطات المصرية على أن الدخل الإضافي من السفن التي لازالت تعبر القناة سيساعد الاقتصاد المصري المتعثر، وقد بلغت نسبة الزيادة في رسوم العبور حوالي 15 % على بعض الناقلات، بما في ذلك التي تحمل النفط الخام والمنتجات البترولية، وفي حال استمرار الأزمة في البحر الأحمر، التي يتوقع بعض الخبراء استمراها لأسابيع أخرى، أو عدة أشهر، فإن إيرادات القناة ستتأثر بشدة في العام الجاري، والواقع، أن الخطة المصرية تنتوي على جزئيتين الأولى، هي الضغط من أجل وقف إطلاق النار في غزة، والجزئية الثانية، مقاومة الأفكار المتعلقة بتهجير الغزاويين وتوطينهم في شبه جزيرة سيناء على الحدود المشتركة، إذ تستطيع مصر التكيف لعدة أسابيع من تراجع إيرادات قناة السويس، لكنها لا تستطيع التكيف مع فكرة التهجير الدائم للفلسطينيين على الأراضي المصرية. ورغم إعراض عشرات السفن عن المخاطرة بالمرور في البحر الأحمر، إلا أن أعداداً كبيرة من السفن التجارية تواصل الإبحار والمجازفة بعبور قناة السويس، التي تعد أقصر طريق بين آسيا وأوروبا، حيث تفيد بيانات تتبع السفن، إلى أن حوالي 114 سفينة، بما فيها ناقلات النفط والبضائع السائبة وسفن الحاويات، تواصل عبور البحر الأحمر، في المقابل، ترتفع تكلفة التأمين ضد مخاطر الحرب للسفن التي تبحر عبر البحر الأحمر، مما يضيف عائقاً آخر أمام التجارة عبر ممر مائي في منطقة حرب، حيث تتقاضى شركات التأمين حالياً نحو 1 % من قيمة السفينة للإبحار عبر هذه المنطقة الخطرة، وهذه تعد قفزة كبيرة، فقبل عدة أسابيع، كانت أسعار التغطية التأمينية تمثل عشر هذا المبلغ، وتعكس هذه الزيادة الكبيرة حجم التكاليف الإضافية التي تتكبدها السفن من أجل عبور قناة السويس. تتحدد التكلفة التأمينية على أساس نسبة مئوية من قيمة السفينة، فإذا كانت تكلفة التأمين ضد الحرب 1 % لسفينة جديدة قيمتها 100 مليون دولار، فإن هذا يعني أن ملاك السفينة مضطرون لدفع مليون دولار للإبحار عبر البحر الأحمر وخليج عدن، ولهذا، يتعين على مالكي السفن والمستأجرين المستعدين للمخاطرة، أن يقرروا في تلك الأثناء الطريق الأرخص لهم: فهل يدفعون تكاليف التأمين الإضافية وزيادة رسوم عبور قناة السويس؟، أم يتخذون مساراً طويلاً حول رأس الرجاء الصالح؟.. ربما يجد بعضهم أن إعادة توجيه السفن حول أفريقيا أكثر فعالية من حيث التكلفة، بالرغم من أنه يطيل مدة الرحلة البحرية بنحو أسبوعين، ويزيد تكلفة الوقود والانبعاثات الناجمة عنه، ولا شك أن سيناريو إعراض السفن عن الإبحار في منطقة حرب، ورفض التكاليف الزائدة لعبور قناة السويس وأقساط التأمين، سيؤثر بقوة على إيرادات القناة خلال الربع الأول من العام الجاري، وربما على العام ككل، حسب توابع الأزمة وتداعياتها المستقبلية. عكس السياحة، وهي مصدر رئيس آخر للعملة الأجنبية، ينظر المصريون إلى قناة السويس على أنها مصدر دخل أقل تقلباً، حيث يمكن الاعتماد عليه لمواصلة كسب الدولارات، لأنه يمر من خلاله حوالي 12 % من التجارة الدولية، خاصة وأن البديل، وهو الإبحار حول طريق رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من أفريقيا، مكلف للغاية ويستغرق وقتا طويلاً، وأحيانا ما يكون محفوفاً بالمخاطر بسبب الأحوال الجوية القاسية، ورغم السوابق التاريخية لتعرقل الإمدادات السلعية في الممرات المائية، فإن شركات الشحن تتحرك هذه المرة بسرعة أكبر، وعلى سبيل المثال، قررت شركة ميرسك الدنماركية، وشركة هاباغ لويد الألمانية، وهما من أكبر خطوط الحاويات في العالم، إعادة توجيه مسارهما حول جنوب إفريقيا لحماية أطقمهما وسفنهما وبضائعهما، وحتى نكون على تصور بطريقة تفكير مديري شركات الشحن، فإنه حين تنشأ أزمة بحرية، مثل الأزمة الراهنة في البحر الأحمر، فإن الشركات تتساءل: ما الخطط الاحتياطية التي يمكن استخدامها؟ وهل ينبغي استخدامها الآن؟ وهل تقوم بتطوير علاقتها مع موردين إضافيين؟ وهل يجب أن تجد طرقاً بديلة؟ وكم سيكلفها نقل البضائع عبر الطرق البديلة إلى العملاء الرئيسيين للحفاظ على استمرار إنتاجهم؟ وما الطريقة الأمثل للمستهلكين؟، وبالنسبة لأصحاب السفن الكبيرة ومشغليها مثل ميرسك، فإن تفادي الخطر على الحياة في البحر يصبح المبدأ التوجيهي الأول. خلال جائحة كورونا، كانت أسعار الشحن مرتفعة للغاية، لهذا، تلقت صناعة شحن الحاويات طلبيات جديدة ببناء عدد كبير من السفن، والكثير من تلك السفن خرج العام الماضي من أحواض بناء السفن، وأدى ذلك إلى هبوط أسعار الشحن مع توافر المزيد من الناقلات، وهكذا، أصبح لدينا طاقة فائضة من السفن في 2023، ومن المتوقع يدخل الخدمة هذا العام المزيد من الطاقة الفائضة للسفن، وهو ما قد يحدث خللاً بين العرض والطلب، وقد عادت خطوط الشحن إلى الخسارة نتيجة لهذه الطاقة الفائضة، لكن هذا الأمر سيتغير الآن، حيث تسببت الأزمة في ارتفاع أسعار الشحن بشكل كبير خلال الأسابيع الخمسة الماضية، ومع ذلك، لسنا قريبين بأي حال من مستويات أسعار الشحن خلال الوباء، وعلى سبيل المقارنة، كانت أسعار شحن السفن من آسيا إلى الولاياتالمتحدة تقدر بحوالي 5000 دولار، وهذا يعني أن المعدلات القصوى خلال الوباء كانت أعلى بنحو خمسة أضعاف الوضع الراهن.