سبقت فكرة التعليم الافتراضي بواعثَ ومستلزمات الإغلاق التي انبثقت جراء انتشار وباء كوفيد 19، الذي حتّم على معظم المؤسسات التعليمية اللجوء إلى الدراسة عن بعد. وتقوم فكرة التعليم عن بعد على منطق الجمع بين العمل والتحصيل العلمي وتطوير الذات، وتعكس وعياً وإدراكاً للمتطلبات وظروف الحياة المتسارعة والمزدحمة وتطورات العصر. ويمثل التعليم عن بعد virtual education أحد مظاهر الثورة الرقمية digital Revolution التي رافقت التطور الهائل في الإنترنت، وما صاحبها من انفجار وتوسع في (السوشيال ميديا) والمنابر الثقافية التي أضحت ضرورة لتبادل الأفكار وإطلاق المبادرات وإغناء الآراء. شئنا أم أبينا، فإنّ العالم الجديد يشهد ثقافة جديدة في التقنية، مع سيطرة الإنترنت والإعلام الرقمي والواقع الافتراضي، وأساليب الاتصال من خلال مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك ويوتيوب، واتس آب انستغرام وسواها. مستقبل التعليم الافتراضي يدخل ضمن هذه المتغيرات المتوالية في عهد السرعة، وتأتي في مقدمة المؤسسات الافتراضية الجامعاتُ المفتوحة، أوvirtual universities. وفي عالمنا العربي تتجلى مبادرة صاحب السمو الملكي، الأمير طلال بن عبدالعزيز، نحو تأسيس الجامعة العربية المفتوحة، كفكرة رائدة في مجال التعليم الافتراضي، ومجاراة التحوّلات التي تشكل المشهد الثقافي والتعليمي والتطور المذهل في هذه الأيام. التعليم الافتراضي يسهم في تلبية حاجات التنمية، لاسيما أنه يتميز بالمرونة والاستقلالية والجودة والجدوى الاقتصادية بالنسبة للتكاليف. وبلا ريب أنّ التعليم الافتراضي أصبح أحد المنارات المضيئة التي تعزز العطاء الإنساني، وإحداث نقلة نوعية في التأثر والتأثير في الكثير من المتغيرات، وجعل العالم العربي يواكب فضاءات رحبة تلبي القيمة الحقيقية للتعليم في جميع مساراته. لقد حطم التعليم الافتراضي الحدود أمام الرعب في التحصيل العلمي، وتجاوزَ عقبات التعليم التقليدي وضرورة التغرب والاغتراب، وما يحملانه من احتراق القلب أمام متاهات الابتعاد عن حضن الوطن والعائلة. ومع ذلك تبقى للتعليم التقليدي أهمية وخصوصية لا يستطيع تلبيتها التعليم الافتراضي؛ فالبعثات للدراسة في الخارج يستطيع الطالب من خلالها اكتساب المعرفة، وكذلك الاستقاء من مناهل مباشرة ومختلفة المصادر، والاحتكاك بالطلاب الآخرين الذين يحملون ثقافات وآراء وتجارب مختلفة. وثمة من يرى أنّ وجود الطالب خارج بلاده قد يعرّض هويته للاهتزاز وقيمه للضياع، وقد يتشبّع بأفكار لا تتسق بالضرورة وواقع مجتمعه، سواء من حيث تعاطفه مع المجتمعات، أو تأقلمه مع البيئة الجديدة، وما تحمله من أفكار وتوجهات مغايرة. هذه الأمور قد تكون حقيقية ولا يمكن إنكارها؛ لأنّ التعليم والبيئة من العناصر المهمة في بلورة الرؤى والأفكار واتجاهات الأفراد، بيْد أنّ هذه المخاوف سرعان ما تتلاشى أمام امتلاك الطالب معرفة سليمة محصنة بقيمه وتقاليده الاجتماعية وتراثه الروحي العميق. كان التخوفُ من التعليم التقليدي والابتعاث في السابق، ناشئاً من مغبّة أن يتأثر الطالب بالأفكار والأيديولوجيات التي يحتك بها في الجامعة الغربية، سواء من حيث الأيديولوجية الاشتراكية أو الغربية الليبرالية. لكنّ ذلك ليس مبعثاً على الخوف، لأنه يجعل الطالب منفتحاً، وصاحب تجربة، ومتنوعاً في اتجاهاته العقلية القائمة على التجربة والمشاهدة والمعاينة والاحتكاك. التعليم والابتعاث أمران في غاية الأهمية للتحصيل العلمي؛ لأنهما يحفّزان في مضامينهما على اطلاع الطالب على مهارات جديدة، واكتساب قيم حضارية متسامحة، من خلال التشابك المعرفي مع نظرائه في المجتمعات الأخرى. المملكة رائدة في ابتعاث أبنائها للدراسة في الخارج، لتحصيل العلم والمعرفة؛ لأنّ التعليم يسهم في إحياء الأمل الإنساني بمستقبل مشرق، وإرساء اللبنات الصحيحة التي تؤسس لحياة أفضل. ومع ذلك تبقى أعيننا مشدودة للمستقبل، ونحن نعيش تحوّلات مذهلة في مختلف المجالات بما في ذلك المجال التعليمي، سواء كان افتراضيًا أو حضوريًا. المهم الاشتباك مع تطورات العصر وعدم العيش على الهامش. *كاتب ودبلوماسي سابق عبدالرحمن الجديع