إذا عبّر الشاعر عمّا يختلج في نفسه فإنه أقرب إلى الصدق، وشعره يجد طريقه إلى القلب، بعكس شعر المدح، فما يخرج من القلب يدخل القلب وما يخرج من اللسان لا يتجاوز الأذان.. شعر البوح النفسي ينساب بلا تكلف، ويحمل المشاعر بصورة صادقة صادرة من الوجدان، ولهذا سماه النقاد (الشعر الوجداني) لأنه صدى للوجد الداخلي، وسمّوه (الشعر الغنائي) لأن صاحبه يُغني به في أحزانه وأفراحه بشكلٍ طبيعي، كما تُغني الطيور إذا ابتهجت أو ضاقت، وكما نحس في غناء الطيور بألحان الشجن أو السرور، نحس به في شعر البوح التلقائي الذي يفيض من وجدان الشاعر حين تفيض نفسه بالأفراح أو الأحزان، على أن شعر الشجن والبوح الحزين هو الغالب على الإنسان في شعره الوجداني، على الأقل في شعرنا العربي عامة، وفي الشعر العراقي خاصة، ولعل الحزن أقرب إلى الإنسان، فالحياة مأساة لمن يشعر. كما نجد الشعر الشعبي يفيض بالشجن إذا تذكر الماضي أو ضاق الصدر وحين يشتد الحنين لمفقود عزيز خاصة في رثاء أقرباء غالين، هذا يسري على الشعر الفصيح والشعبي، لأن مشاعر الناس واحدة وإن اختلفت طرائق التعبير ابن الرومي حين رثى ولده الأوسط كان يبوح عمّا بداخله من شجن لو كتمه لقتله، وحين رثى وجهاء عصره ممن أكرموه لم يكن يبوح عما بداخله بصدق بل يتطلع لمكارم أخرى من الأحياء، رثاؤه لابنه زفرات حرّى تخرج من قلبه سليقة كما يخرج الدخان من النار، ورثاؤه للخلفاء وكبار القادة الكرماء صنيعة عقل يبحث عن كسب حتى وإن لم يخلُ من وفاء، وهذا يكاد ينطبق على باقي الشعراء، فمن يده في النار غير الذي يده في الماء. ونجد البوح النفسي في رثاء محمد بن مسلم لزوجته في قصيدته الطويلة: البارحة يوم الخلايق نياما بيّحت من كثر البكا كل مكنون ولي ونّةٍ من سمعها ما يناما كِنّي صويبٍ بين الاضلاع مطعون.. ومثله رجب البيومي في رثاء زوجته: قد كنتِ راصدةً خُطايَ فهل ترى بلغتك عني في الذي... الأخبارُ ألمحتِ سيري في الشوارع هائماً حيرانَ لا جلَدٌ ولا استقرارُ مثل هذا بوح ذاتي فيه نوح على النفس وعلى من رحل، بعكس الرثاء العام إلا إذا كان وراءهُ سرٌّ دفين يمس النفس كرثاء المتنبي خولة أخت سيف الدولة: طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فزِعتُ فيه بآمالي إلى الكذَبِ فلمّا لم يدع صدقه لي أملاً شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرق بي إلى آخر القصيدة التي تدل على حُبٍ خفي بان في لوعة الشعر، والمتنبي من أكثر الشعراء في البوح الذاتي الكاشف لمكنون النفس رغم إغراقه في المدح، لأنه أقدر شعراء العربية على كشف أسرار النفس البشرية، ونفسه أولى، ونجد نماذج كثيرة لبوح المتنبي، ليس في قصائده الذاتية فقط كقصيدته في الحمى التي أنهكته: وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزورإلا في الظلامِ بذلتُ لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي ونحوها من قصائده العظيمة، بل نجد غناءه الذاتي يتسلل في شعر المديح والهجاء الذي أبدعه، لأنّ داخله من القوة بحيث يبرز إلى الخارج في أبيات تتخلل قصائد المدح والهجاء.. وحين يتوجه الشاعر إلى خالقه، سبحانه وتعالى، يتجلى البوح النفسي والضعف البشري الحقيقي كأوضح ما يكون، نجد هذا في توبة محسن الهزاني وأبي العتاهية وحتى أبي نواس: دبّ في الفناء سفلاً وعلواً وأراني أموت عضوًا فعضو إلى آخر القصيدة المشهورة.. شعر البوح الصادق الصادر من القلب من أكثر الشعر تأثيراً في النفس.. بالسجود لله يتجلى الضعف البشري