يمنع الناس من الحج مخلوق لا تراه أعينهم، يهدد حياتهم، ويصيب أجسادهم بالعلل، عطل أعمالهم، وأوقفهم على قدم واحدة، نذيراً وبشيراً، ينذر من غفل، ويبشر من عقل، يفصح بفعله عن قدرة خارقة لرب عظيم، يدير الكون، ويدبره، يذكر الناس بقوته عبر مخلوقاته الضعيفة.. كنت في بلد إسلامي قبل سنوات، ولقينا امرأة جاوزت السبعين من عمرها، لم يسبق لها الحج ولا العمرة، فوعدناها بعمرة في ذلك العام، فلما ترجم وعدي لمحافظ المنطقة بكى ومن في المجلس فرحاً، فلما أبلغت المرأة وهي في قريتها تباشر أهل القرية فكانت ليلتهم عيداً. كنت أعجب وأنا أرى الدمع في أعينهم، وهو مجرد وعد لم يصل بعد إلى التحقق، شوقاً إلى البيت الحرام، وتوقاً إلى تلك المشاعر، التي تثير المشاعر. مهما توسع المرء في الخيال، ومهما أوغل في التوقعات، فإنه لا يمكن أن يصل إلى تخيل حالنا في هذه الأيام جراء ما حدث للعالم من جائحة كورونا! واليوم وأنا أكتب هذا المقال جالت بخاطري تلك اللحظات لأتصور جوابًا افتراضيًا على سؤال! كيف لو حيل بين المسلمين وبين مكة، أو كيف لو طال هذا الإجراء؟ أو لأي أمر قدره الله أن يكون، كيف ستكون مشاعر المشتاقين للفرج بعد الانتظار؟؟. سبحان الله، كنت وكنتم أيضاً نظن أن الواحد منا قد لا يحج لعارض من مرض أو فقر أو شغل أو لأي سبب آخر. لكن لم يخطر في البال مطلقاً أن يحال بين المسلمين جميعاً أن يلبوا النداء الخالد من خليل الرحمن عليه السلام. شعرت اليوم بشعور تلك الأمم التي يفصلها عن الكعبة مفاوز وأخطار، ويمنعها من الوصول إليها فقر وأحوال. الحج هذا العام غير كل عام، الحج هذا العام يملؤه الخوف، ليس من عدو حاضر ماثل أمام الأعين، إذن لقاتلناه، ونازلناه، وجاهدناه، وليس لنقص في الإعدادات أو الإمدادات، فحكومة المملكة لم تألُ جهداً في تهيئة المشاعر للطائفين والعاكفين والركع السجود. يمنع الناس من الحج مخلوق لا تراه أعينهم، يهدد حياتهم، ويصيب أجسادهم بالعلل، عطل أعمالهم، وأوقفهم على قدم واحدة، نذيراً وبشيراً، ينذر من غفل، ويبشر من عقل، يفصح بفعله عن قدرة خارقة لرب عظيم، يدير الكون، ويدبره، يذكر الناس بقوته عبر مخلوقاته الضعيفة. ونحن إذ نمر بهكذا ظرف ينبغي لنا أن لا تأخذنا العواطف وتأسرنا المشاعر عن تقدير الحال، والتعاون على مواجهة الحدث، وأن نكون صفاً واحداً كي ننجوا جميعاً. هذا مما يوجب علينا الوقوف عند أعتاب هذه النعمة لنرعاها ونسير وراء قيادة هذا البلد الحكيمة في طريق المحافظة على أمنها وأمانها والسعي للرقي بكل ما يخدم ضيوف الرحمن. وربما يرى بعض المغرضين في تقنين الحج لهذا العام فرصة لينالوا بها من عرض هذه الدولة المباركة، حتى إن بعضهم جعل ذلك من الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام. ولن نرد عليه ولا على أمثاله، لأن الرد لن يقنعهم، فهم لا يريدون القناعة، بل يريدون التشغيب والتأليب على ولاة الأمر، وتشكيك الرعية في حرصهم بل وفي دينهم. فالحديث إذن موجه إلى العقلاء ممن يعرف المشكلة ويوقن بصدق أسباب المنع، وأن الأمر خارج عن إرادة الدولة ورجالاتها، بل وخارج عن قدرة العالم كله، فقد أغلقت دول ومدن وأوقفت مطارات وموانئ وغير ذلك مما هو مشاهد ومحسوس. فحجب الناس عن الحج ليس رغبة في منعهم أن يقضوا تفثهم ويوفوا بنذورهم، بل هو حماية لأرواحهم وحفاظ على صحتهم، وحرص على سلامتهم، فمن كان ذا إنصاف عذر، وساند بالدعاء والتضرع، ومن كان غير ذلك فالله حسيب المؤمنين عليه.