النظام السياسي الدولي يكتشف من جديد أن أدبيات تطوره أصبحت مثقلة بالأسئلة المهمة والتناقضات وعدم التكامل، فالنظام العالمي السائد لم يعد قادراً على الحصول على تفسيرات مقنعة حول فلسفة الاقتصاد.. الشعور العام في العالم يكاد يتفق أن القرن العشرين هو وبحسب التقييم العالمي تفوقت فيه أشكال محددة من الأنظمة السياسية ذات الإطار الديموقراطي الليبرالي، وقد حقق الغرب تحديداً - وهو من تبنى هذه الأنظمة - انتصاراً مهماً على منافسيه تمثل في سقوط الشيوعية التي أدت إلى غياب كيان سياسي كبير كان يدعى الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك كان الانتصار على الفاشية، هذا الإنجاز الذي بدا نهائياً وحتمياً مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين جعل من الصعب طرح الأسئلة الفكرية الكبرى حول النظام العالمي. تصورات المفكرين حول النظام العالمي لم تكن تحتمل تلك التعقيدات الكبرى في النظام السياسي العالمي، وهذا ما جعل الأسئلة الخاصة بتصورات التغيير أو التحول العالمي أمراً شبه مستحيل، وكأن العالم وقف عند مرحلة محددة ولن يتغير وأن تفوق الأنظمة الديموقراطية هو تفوق أزلي لن يتمكن من خلاله العالم على تغيير ذلك المسار، ولكن مع ظهور فايروس كورونا تفاجأ العالم بفتح خزائن الأسئلة حول النظام العالمي، وبدا للجميع من المفكرين والمتابعين أن النظام العالمي وخاصة في شقه الديموقراطي يرزح تحت وطأة جملة من المشكلات ارتبط بحجم البطالة والكساد الاقتصادي والأزمات المجتمعية والأزمات البيئية. كورونا أزمة صحية ولا يمكن مواجهتها إلا بعزل الإنسان في محيط يفصله عن الإنتاج والتفاعل مع الآخرين بطريقة صارمة، حيث لا يوجد خيار لهذا الصرف سوى فقد الإنسان لنفسه وفقد الدول لقدراتها، ويبدو أمر كورونا شبيهاً إلى حد كبير بالعربة التي يجب أن تتوقف على قارعة الطريق وهي مليئة بالبشر، ولكن ذلك لا يكفي إذ يجب عليهم جميعاً أن يترجلوا من هذه العربة، ليس هذا فحسب، بل يجب عليهم أن يتفرقوا كل في زاوية بعيداً عن الآخرين، وعليهم أن يبقوا على هذه الحال حتى يقرر شخص بعيداً عنهم يمثل النظام الصحي كيف يمكنهم العودة إلى ركوب العربة من جديد وفق إجراءات صارمة غير معتادة. هذا السيناريو يمكن أن نطبقه أيضاً على النظام العالمي الذي يجد نفسه مضطراً لتلقي التعليمات الصارمة للمحافظة على نفسه كي يبقى، ولكن مصدر حياة هذا النظام قد تغير، فعربة المجتمعات العالمية شبه متوقفة عن الإنتاج والتحرك، والإنسان أصبح في معزل ثقافي إجباري وإعادة الحركة الإنتاجية والاستهلاكية للعالم عملية صعبة، فالحذر أصبح السمة الثقافية لسكان الأرض، والتقارب الجسدي أصبح من أهم المحظورات، فتصورات العولمة التي تقوم على التقارب الشديد بين الثقافات تتفجر الأسئلة حولها وخاصة في مجال ارتفاع قيمة الإنسان الفعلية من حيث صحته ومنحه الفرصة الأكبر لكي يعيش كإنسان. جانب آخر كشفه كورونا؛ فبدرجة كبيرة أثبتت الأديان على تنوعها العالمي وعددها الذي يتجاوز الآلاف في هذه الأزمة، أنها قد تتفوق على النظام العالمي بمنهجيته السياسية، وظلت هذه الأديان تقدم قيماً يمكن الوثوق بها بغض النظر عن التجربة الإنسانية التي تعيشها الشعوب، ولكن تجربة تلك الأديان ارتبطت بالإحساس المباشر بالخطر على الحياة وليس الخطر المحتمل على النظام العالمي بشقه السياسي والاقتصادي. سؤال مهم طرحه كورونا عن الكيفية المحتملة لعيش الإنسان بلا إنتاج واستهلاك لفترات طويلة من الزمن، بالإضافة إلى أسئلة مهمة حول قدرة الإنسان على العزلة الذاتية ومواجهة تصورات ثقافية مختلفة، فليس هناك من شك أن كورونا اختبر القيم السياسية والاقتصادية وكذلك القيم الأخلاقية والمبادئ الدينية وكل شيء حول الإنسان! فلأول مرة بعد حداثة القرن العشرين تطرح أسئلة كهذه قد تسهم في المستقبل في إيقاف العمل بالعقلانية المفرطة ولو بشكل مؤقت، ففي القرن العشرين وتحديداً فيما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت العقلانية الصارمة والبرغماتية محور الاقتصاد والسياسة، وضمت الإنسان بطبيعته المختلفة إنسانياً وقيمياً إلى منظومة المنتجات والاستهلاك. النظام السياسي الدولي يكتشف من جديد أن أدبيات تطوره أصبحت مثقلة بالأسئلة المهمة والتناقضات وعدم التكامل، فالنظام العالمي السائد لم يعد قادراً على الحصول على تفسيرات مقنعة حول فلسفة الاقتصاد "دعه يعمل، دعه يمر" ومن الفرضيات المحتملة أن يدخل العالم الديموقراطي الليبرالي على وجه التحديد بعلاقة متوترة وعسيرة سببها هذا الفايروس، وهنا يصبح من المهم على النظام الدولي خلق درجة معينة من التوافق بين الشعوب والدول بطرق مستحدثة تغير في بنية الدول، في النهاية يبدو بوضوح أن كورونا قد طرح الأسئلة المهمة حول النظام العالمي الذي يمر بحالة ولادة متعسرة مع هذا الفايروس، ولكن المولود قد يفاجئ الجميع ولكن المؤكد ألا شيء سيعود كما كان.