أن تتحول الحياة فجأة من صخبها المعهود إلى صمت غريب, ومن ضوضائها المألوفة إلى هدوء مُطبِق, أن تبتعد أيامنا عن الضجيج الذي كان ديدنها, والإزعاج الذي ظل يلازمها, أن ننأى عن تلك الجلبة التي تشرّبت في نفوسنا, أن نفتقد أصوات المنبهات, وكثافة السيارات, والحشود والتجمعات, أن نطيل المكث في بيوتنا بعد ابتعادنا عنها كثيراً بسبب العمل, أو السفر, أو مشاغل أخرى, أن نتباعد عن بعضنا بعد أن كنا متقاربين, أن تخلو شوارعنا, وأسواقنا, وحدائقنا, ومدارسنا ممن كانت تعج بهم؛ فهذا يعني أننا سنتحول من نمط إلى آخر, ومن حياة إلى أخرى. ما بين غمضة عين وانتباهتها, يغيّر الله من حال إلى حال؛ هكذا بدا لنا المشهد الذي نعيشه اليوم في زمن حظر التجول؛ نعم لقد عدنا إلى حياة جديدة لم نكن نعهدها؛ اليوم نجد أنفسنا مضطرين إلى التحول؛ لأن منع التجول بات حلاً لمواجهة هذا الوباء الخطير؛ هذا المنع أيا يكن جزئياً أو كلياً, هو في الحقيقة ليس شراً أو أسراً, بل هو خير في كل أحواله. والحق أن حكومتنا الرشيدة – أيدها الله – تعاملت معه على أساس من الاحترام, والمرونة؛ إذ لا يكاد يشعر المواطن والمقيم بأنه في عزلة, فكل شيء متوفر له, وهذا مما يحسب لمملكتنا الغالية في اتخاذها حزمة من التدابير, والإجراءات التي قد تسهم في الحد من انتشار هذا البلاء. حظر التجول أدى بنا إلى التحول, وأحدث فينا لوناً من التجدد, والتغير في كل شيء, في العادات, والسلوك, والأخلاق, بل صار هذا المنع فرصة لأن يعيد الإنسان كثيراً من حساباته, ويراجع ما تأخر من شؤونه وأعماله؛ هذا الحظر هو فرصة مواتية لأن يجدّد الإنسان في بيته, ويقوي صلته بأهله؛ ولو جربنا أن نقرأ كتاباً، أو نمارس نشاطاً رياضياً، أو نشاهد برنامجاً مفيداً، أو محتوى نافعاً؛ لو اعتنينا بالأشياء الكثيرة من حولنا سوف يصبح هذا الحظر أمراً مثيراً، وسنجد في بيوتنا حياة أخرى جديدة لم نكن نشعر بها من قبل. وإنه لمن الجيد أن نرى - في ظل هذه الأزمة - بعض الشعارات التي تحث الناس على البقاء في منازلهم إلى أن تنجلي هذه الغمة؛ هذه الشعارات مؤثرة بعيداً عن قيمتها اللغوية (خلك في بيتك – معك في البيت – نخدمك في بيتك – البقاء في المنزل سلاحنا الأقوى...) ولقد أعجبني كثيراً ما قامت به وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة من إطلاق مبادرة (أدب العزلة) التي تهدف إلى اغتنام هذه الأزمة بالإبداع, واستثمارها في إنتاج مشروع أدبي يوثّق أحداث الوقت الراهن, ويجعل حظر التجول باعثاً على مزيد من التحول, ليس في المجال الأدبي, بل في مجالات أخرى كثيرة.