العناية بالناحية الصوتية ظاهرة واضحة للعيان في النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها، وفي صياغة المثل الشعبي تحديداً تتجلّى عناية مُنتِج المثل بالناحية الصوتية على مستويات مُختلفة من أبرزها الاهتمام الواضح بالسجع في أمثال كثيرة مثل: "من تقدّم ما تندّم"، "ابذر الحب وارج الرب"، "طوّل جدارك ولا تتهم جارك"، " إذا صرت أميرا وأنت أمير من يسرح بالحمير؟"، "راعي البوق ما يرتفع فوق"، "اللي فيه نصيب ما ياكله الذيب"، وفي غيرها من الأمثال الشعبية التي يتضح من صياغتها الرغبة الأكيدة في أن يكون للسجع دورٌ في تعزيز مضمونها وفي زيادة قدرتها على الشيوع والجريان على الألسن. من الإشكاليات التي تواجه صائغ المثل أن السجع لا يتهيأ أمامه دائماً، وقد لا تُسعفه ثروته اللغوية لحظة توليد المثل لإيجاد الكلمة الأنسب أو الأفضل، وأمام هذه الإشكالية إما أن يستعمل ألفاظاً توفّر له السجع لكنها واضحة التكلُّف ويُمكن للمتلقي ملاحظة تكلّفها بسهولة، ومن ذلك، على سبيل المثال، المثل القائل: "مكتوب على ورق الخيار: من سهر الليل نام النهار"، فكلمة "الخيار" كما يذكر الشيخ عبدالكريم الجهيمان - رحمه الله - في موسوعة (الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية) جيء بها "للسجعة فقط.. يضرب مثلاً للاستدلال على بعض الأمور المجهولة بالأمور التي ترى". وإما أن يسلك صائغ المثل طريقاً آخر يحقّق له السجع وهو طريق "الإتباع"، والإتباع أسلوب لغوي أشار له علماء العربية كالسيوطي وابن دريد وابن فارس وغيرهم، وصُنفت فيه مصنفات عديدة من بينها (كتاب الإتباع) لأبي الطيب عبد الواحد اللغوي. وتعريف الإتباع بحسب (المزهر) للسيوطي: "أن تُتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويِّها إشباعاً وتأكيداً، وروي أن بعض العرب سُئل عن ذلك، فقال: هو شيءٌ نَتِدُ به كلامنا، وذلك قولهم ساغبٌ لاغب، وهو خَبٌ ضَب، وخرابٌ يباب"، ويُلاحظ أن النمط الشائع في صياغة الأمثال الشعبية هو ما يسميه (المعجم المفصل في الأدب) الإتباع "التزييني"، وهو ما يأتي فيه اللفظ التابع لمجرد السجع وبلا أي معنى يعود على اللفظ المتبوع. وكان الشيخ محمد بن ناصر العبودي على وعي تام بأسلوب الإتباع في كتابه الرائد (الأمثال العامية في نجد)، وتقابلنا في مواضع متفرّقة منه إشارات لهذا الأسلوب من بينها إشارته التي وردت في شرح المثل: "حيسي ديسي"، إذ يقول: "الحيس هو الاختلاط والتداخل، وعدم الوضوح، وديسي إتباعٌ لحيسي.. يُضرب مثلاً لعدم وضوح الأمر وبيانه"، وكذلك قوله في شرح مثل: "يصوطهم، ويلوطهم" أن "أصلها يسوطهم بالسين مِن ساط الرجل القوي قومه يسوطهم بمعنى أجبرهم على اتباع أوامر مستعجلة شاقة.. أما يلوطهم فالظاهر أنها إتباعٌ ليسوطهم". ويؤكد أيضاً في مواضع أخرى على وعيه بهذا الأسلوب الفصيح بقوله شارحاً المثل الشعبي: "يهربد، ويبربد" أن يهربد جاءت "من قولهم في كلامهم العامي هربدَ عليّ فلانٌ بمعنى تحدث إليّ بكلام غير مهم وغير منتظم في أمور شتى.. وأما كلمة يبربد فهي إتباعٌ لكلمة يهربد لا معنى لها غير ذلك مثلما جاء الإتباع في الفصحى". وفي (الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية) للجهيمان يقابلنا أسلوب الإتباع بصورة مباشرة في أمثال مثل: "ما له حس ولا رس"، والحس هو الصوت، "أما الرس فهي كلمة قد تكون أتبعت من أجل السجعة وهي تأكيد لمعنى الكلمة الأولى مع أنها لا معنى لها منفردة.. يضرب مثلاً لمن اختفت حركته الظاهرة والباطنة ولم يبق له أي أثر". وفي أمثال أخرى مثل: "العجز بن اللجز بن الفقر بن الحاجة"، فالعجز هو الكسل، واللجز "كلمة لا معنى لها وإنما جيء بها لأجل السجعة، والفقر والحاجة معروفتان، يضرب مثلاً للكسول الذي يعتمد في أمور حياته كلها على الناس وعلى مجهود الغير". وهناك أمثال كثيرة يمكن إلحاقها بأسلوب الإتباع مع خروجها عن النمط السابق، كأن يعمد صائغ المثل إلى توليد كلمة بلا معنى تسبق كلمة أخرى على نفس وزنها كما في المثل الشعبي "قال عايط قال في الحايط"، فكلمة "عايط"، بحسب الجهيمان، كلمة "لا معنى لها وإنما جيء بها للسجعة، وفي الحايط أي حاضر عندما تدق ساعة العمل. يضرب مثلاً للمنتظر المترقب لكلمة السر التي إذا قيلت كان على أتم الاستعداد للدخول فيما دعي إليه في خير أو شر"، ويمكن للمتأمل أن يلحظ وجود العديد من الظواهر الصوتية الجديرة بالوقوف عندها، والتي تدل على البراعة والذكاء في توليد الأمثال الشعبية، وكان لها دورٌ واضح وقوي في منح الأمثال قدرة أكبر على السيرورة وعلى التأثير في المجتمع التي كانت تُتداول على ألسنة أفراده. محمد العبودي عبدالكريم الجهيمان