هذا الوضع الذي تعيشه الصحف جرّأ الكثير على النقد الذي يصل أحياناً إلى التجريح للقائمين على هذه الصحف من إدارة وتحرير، وقد شمل النقد أداء المحررين والصفحات على اختلاف تخصصاتها خصوصاً الثقافية.. لا يقتصر التحدّي الذي تواجهه المؤسسات الصحفية على ضعف مداخيلها التي كانت الوقود الأبرز لنهوضها وأدائها لأدوارها العديدة؛ بل إنه تحدٍ يستتبعه تحديات أكبر ومرحلة صعبة تعيشها جميع المؤسسات الصحفية بلا استثناء؛ وتعمل - جاهدة - على التعاطي معها بما يجب. وقد شهدنا حالة من الثبات والاستقرار الإداري والتحريري لبعض الصحف؛ منها مؤسسة اليمامة الصحفية التي تضطلع بأدوار وبرامج ومبادرات عديدة حفظت لها توازنها وثباتها بلا اختلال مُخلّ ولا اهتزاز مُقلق؛ والمقبل سيكون أجمل بحول الله. لكن مع هذه التحديات تنتابك حالة من الاستغراب حين تجد من يتعالى على الواقع ويحاول انتقاص جهود الآخرين؛ مطلقاً أحكاماً جائرة وغير موضوعية مبنية على تصوّرات وأقاويل يسمعها من هنا وهناك ويبني عليها حكمه. لقد رُزئنا بحالة من الانخذال الثقافي الذي اجتاح الوسط الثقافي؛ انخذال أفضى - كنوع من التعويض - إلى تورّم ذوات وانتفاخها لدرجة جعلت من نفسها وصيّة على المشهد وسادنة له؛ بل وقابضة على جمر الحلول الذهبية السريعة. هذا الوضع الذي تعيشه الصحف جرّأ الكثير على النقد الذي يصل أحياناً إلى التجريح للقائمين على هذه الصحف من إدارة وتحرير، وقد شمل النقد أداء المحررين والصفحات على اختلاف تخصصاتها خصوصاً الثقافية، وشهدنا بعض الندوات والحضور النقدي الذي شابه الكثير من الزيف وانتقاص جهود وكفاءة القائمين على الأقسام الصحفية على اختلاف حقولها، نقد يستعين كثيراً بمفاهيم وثقافة الغرب الكبيرة ذات الدويّ في الأوساط النقدية، يتصوّر البعض أن مجرد استجلاب بعض المصطلحات الجاهزة ذات الرنين المدوّي؛ كفيل بأن يمنحه الحق في الإطلال من علِ والتلويح بعصا التعليم والدرس والتقريع لمن لا يمتثل لمدرسة الناقد الفذ، حقيقة هي حالة من الانبهار الصارخة التي تخدع صاحبها حين يتلبّسه وهم المثقّف الرائي المُبصِر الذي يجب أن تأتمر بأمره الجموع الثقافية أو من تحاول أن تكون كذلك. حديث طويل ومسهب يصل للمجّانية في الآراء والطرح متبوع بثرثرة مجانية على منصّات التوصل ما بين من يطلق الأحكام ويشخّص أدواء وعلل الصحافة الورقية بزعمه؛ تشخيص مشفوع أحياناً بنبرة ازدرائية من أداء وتعاطي القائمين عليها؛ حتى لتكاد تشعر أنّك وبقية زملائك من العاملين في الصحافة الثقافية حديثي عهد بالمهنة، أو قد يوحي للبعض بأنكم مجرد طارئين قذفت بهم الأقدار لمدارج الصحافة، تصوّر قاصر لا يعكس وعياً حقيقياً بالمهنة ولا بدقائقها ولا بتفاصيلها ومتاعبها الصغيرة؛ لكنها شهوة حب الظهور المخبوءة في الأعماق والاستعراض والمظهرية التي تتلبّس بعض المغامرين الذين لو خضعوا لاختبار حقيقي في تحرير خبر أو صياغة عنوان أو أي فن من الفنون الصحفية المعروفة للمتمرّسين لكانت فضيحة مدويّة، لكنها أحاديث الرخاء والبطالة التي تعاني منها بعض الذوات المتورّمة. من ينصبون سرادق العزاء للصحافة الورقية وتتعالى تحذيراتهم هنا وهناك لا يفرّقون بين الصحافة كمفهوم أو كممارسة ويخلطون بينها وبين منصّاتها ووسائلها بشكل يدعو للتندّر. أما من ازداد توغّلاً بزعمه في التشخيص والتنظير للأدواء الصحفية خصوصاً في الصحافة الثقافية؛ فمن متابعة ورصد سريعين تكتشف أنهم لا يقرؤون فعلاً؛ أو أنهم يقرؤون لكن يمارسون كثيراً من التضليل والتعمية بغرض الإيحاء للقارئ والمتابع العادي بأنهم وضعوا أياديهم على جرح الصحافة الثقافية. الحالة النقدية لدينا تعيش تشذّراً وفوضى وادّعاء ومظهرية لا تخفى على البصير بواقع الحال؛ أزعم أني على دراية بتفاصيل كثيرة قد تكون صادمة للقارئ، وقبلها من يمارس هذا التقييم وإطلاق الأحكام ومنح البعض مدائح والضن بها على البعض. النقد على تواضعه وتباين مدارسه لدينا بحكم قراءات كل ناقد أو من يحاول أن يكون؛ يشهد عثرات وتناقضات كثيرة؛ بدءاً من قراءات مضلّلة لنصوص ضعيفة وتقديمها على أنها فرائد إبداعية فيما يتم تجاهل نصوص قوية وتهميشها لأسباب لا علاقة لها بالنقد كاستمزاج أو خلافه. هذه لمحة بسيطة فقط لواقعنا النقدي الذي ما زال يعيش ذات الفوقية والنرجسية، ولم يقدم لنا قراءات حقيقية يمكن استدعاءها في قابل الأيام عدا بعض المحاولات الجادة لكنها لا تكفي. هذا الارتباك جدير بمساءلة حقيقية عن واقع النقد لدينا؟ هل ما يتم طرحه وما يتم الاشتباك معه من نصوص نقد حقيقي وسابر لغور تلك النصوص وعبر أدوات ومفاهيم نقدية صحيحة؟ أم أنها مجرّد استجلاب ومظهرية لمناهج نقدية ومصطلحات ليست بالضرورة تحكي واقع وقيمة النص المنقود. قضايا كثيرة يمكن طرحها لكنها فعلاً تحتاج لمجابهة حقيقية بعيداً عن التعاطي الدبلوماسي الذي يداهن ويلين ويربّت على أكتاف أسماء، ويخشوشن ويتصارم مع أسماء أخرى؟ في النهاية، الصحافة بمدلولها الأشمل والأعمق وكذلك النقد والثقافة والمثقفين مفاهيم وإشكالات وعناوين تنتظر من يطرحها ويتماس معها بوعي وفهم لا يخالطهما غرور معرفي؛ ومن ثم نحاول طرح حلول حقيقية بعيداً عن الادّعاء والتزييف؛ وقبلها؛ الصدق، والاعتراف بقلة البضاعة وبخسها؛ طالما أننا ما زلنا مستهلكين للمفاهيم والنظريات، والعلم عموماً في شتى حقوله.