درج في أي حقل علمي أو معرفي، العناية بوضع مصطلحاته أي: تسمياته وتعاريفه، سواء في مكوناته أو عناصره، ونظرياته ومناهجه، ولكون الفن والأدب والتراث ضمن مسمى الثقافة، فهي تقترب من العلوم الإنسانية والاجتماعية كافة، كما أنها لا تخلو، سواء في صورتها المعنوية أو شكلها المادي، من التداخل مع علوم أخرى، فقد طفت اتجاهات أكاديمية تنحو إلى التداخل المعرفي ما بين العلوم والفنون والآداب والتراث، وذلك لأن تلك المنتجات الثقافية محصلة من تجارب الإنسان على وجه الأرض. وها هو النغم -كلمة مضللة أو مجاز فاقد الصلاحية- لا ينفك عن أن يكون صدى لا صوتاً، لكن الإنسان غلّبه صوتاً، وتجمعت حركة الإنسان وقوله وأدائه لتصنع تلك الفنون والآداب والتراث. إن قوام التعامل مع تلك المنتجات الثقافية يبدأ عن طريق الحواس بصورة شفوية دائمة في الأداء ثم التلقي والمشاركة والاستعادة، تصنع ذاكرة الناس من تلك المنتجات الثقافية المتعددة كاللغة وتعابيرها، وأمثالها وحكمها، وفنون عملها ومناسباتها، وترفيهها وحروبها. وقد أحدث ابتكار التسجيل تأثيراً على صياغة أشكال ومعان وأدوات وآليات تطلبتها التطورات الصناعية والتقنية، وظهور وسائل النقل والعرض، وتغير احتياجات المستمعين والمستهلكين، وانفتحت الشعوب على بعضها، وجاء دور الملحن ليجعل من النغم رفيق الكلمة أو الآلة، وهو معرض، عبر ثقافة السماع، إلى قياسات بين ما تلقاه من بيئته ومن سواها. يحاول الملحن أن يجعل لنفسه كياناً مستقلاً أولاً بعيداً عن الشاعر، وثانياً موازياً المغني وثالثا مسخّراً الآلة، ربما للشاعر رحابة اللغة بحروفها وركيزة معجمية وأدبية "شعري، قولي، نثري، سردي" بينما لا يملك الملحن ذلك فهو بين مطرقة الذاكرة وسندان الإنتاج. أي أنه موقوف على أمثلة من فنون الأداء والقول والحركة، والقوالب التقليدية، والأغنية، إذ باتت عناصرها ثابتة وسهلة الانكشاف في حال تكرارها أو تحريفها، ويعتمد كثير منهم على تحوير المسموعات الموسيقية إلى نتاج، وإن خطا على ممشى سواه، يفارقه في الفكرة أو الحرف أو الميزان، ويتعرض الملحن إلى تهم متعددة مثل الاقتباس والأخذ أي الوقوع في أسر السابق والعجز عن التفوق عليه. سقطت قضية السرقات الأدبية والفنية تحت مبررات التعريض بالخصوم إلى مسألة لا تخرج من اعتبارين: الوقوع في استعادة التراث، والثاني الوقوع في أسر الآخر، إذا تجاوز ذينك الاعتبارين يوجد الملحن أو ينتهي، عمر الملحن قصير، حبيس أسلافه، إما أن يعيد نفسه وإما أن يستعيد الآخرين، موتى أو أحياء.