لا يخفى على أحد أهمية الثقافة في المجتمعات، التي تنطلق من وعي عميق بأهمية التحولات الحديثة وما تطرحه من تحديات، فهناك علاقة وثيقة بين مستوى التقدم الذي يسود وطنًا ما ونتاجه الثقافي، ومدى مساهمة هذا النتاج في مسيرة التطور الاجتماعي.. الترويح عن النفس سلوك إنساني عام يتساوى فيه جميع البشر في شتى أصقاع الأرض ماضيًا وحاضرًا، ولا يوجد شعب من شعوب الأرض لا يفعل ذلك فرارًا من ضغوط الحياة اليومية، لكن يبقى الاختلاف في التنوع وأساليبه، وذلك هو المحدد الذي يرجع في الأصل إلى الثقافة التي ينتمون إليها، ودرجة وعي الدولة بحق أفراد المجتمع إلى الترويح عن النفس، فهو حق من حقوقهم ليس لغيرهم مصادرته إلا متى انتهكت الحرمات، أوخرقت قوانين المجتمع المتفق عليها، لا التي يفرضها المتشددون، ولعلنا مازلنا نذكر كم نافذة للترويح عن النفس في بلادنا أغلقت، وكم فعالية ألغيت، أوضُيّق على زائريها؟ وذلك خلال حوالي أربعة عقود عجاف، هيمن فيها على بلادنا الفكرالصحوي الابن الشرعي للإخوان المفلسين. فلقد اعتاد أولئك المتشددون التوجس من أيّ جديد، دون أن يعطوا أنفسهم والآخرين فرصة تأمل ما فيه من محاسن، وما ينطوي عليه من مثالب، بل إنهم يسلكون باب الوصاية؛ كدأب فرعون الذي قال لقومه :(مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) . ناهيكم عن الباب الأكثر سهولة؛ لإراحة أنفسهم من عناء الضبط والربط والملاحظة والتقييم، فكلما طرأ جديد هرولوا إليه، أي إلى باب سدّ الذرائع؛ أكبر الأبواب التي تستوعب كل تناقضاتهم وتوجساتهم وشكوكهم، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال! لقد حُبس مجتمعنا فيما يتعلق بالقضايا العصرية الناشئة وما يفرضه نمط الدولة الحديثة في نوع من الأيديولوجيا الضيقة، التي أنتجت خطابًا أخلاقويًا يهدف إلى تحديد نموذج إنساني مقنن، وقالب مجتمعي أوحد، بما يكشف عن سلطة لا يستمدها بالضرورة من الشرعي، بقدر ما يستمدها من توظيف الشرعي لصالح الأيديولوجيا القائمة على التشكيك والتخويف من غرق (سفينة المجتمع)! إن أخطر أنواع الممارسات وأعمقها جذورًا داخل المجتمعات، هي تلك الأفكار التي تندس في ثنايا الخطاب الوعظي فيعظم تأثيرها على المتلقين، إذ يستغل بعض المتشددين منابر المساجد، ليحرضوا على كل جديد، ويصفوا من يتبناه ومن يتحمس له بالمنافقين والتغريبيين والشهوانيين، وغير ذلك من ألفاظ القاموس الفضائحي، الذي يكشف عدم انصياعهم لقول الله تعالى:(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). هذا إن كانوا حقا يقصدون المصلحة العامة. فلقد راجت منذ أيام خطبة في أحد المساجد لا يُعلم قائلها على وجه الدقة، ومما جاء فيها قوله: "احذروا مثيري الشهوات، احذروا الاختلاط والحفلات الماجنة، والحفلات الموسيقية والسينمائية، وإن زعموا أنها ترفيهية، فما هي إلا مشروعات تغريبية بخطوات مدروسة تدريجية، وضوابط تغريبية لا ضوابط شرعية، ألبسوها أثوابا جذابة ومغرية، وغلفوها بمعاني التغيير والتجديد للأفضل، ترفيه ليس له عندهم بديل غيرالمجون والغناء والرقص والاختلاط، ما هو إلا عار وخزي ونذير شؤم على البلاد... " ! الله أكبر ما أجرأه -وهو يقف على منبر مسجد ليخطب في جمع من المصلين- على التفوه بكل تلك الألفاظ الخارجة عن الوقار والسمت الديني، أوَليست الصلاة تهنى عن الفحشاء والمنكر؟ فكيف يقول ما قال بشأن مسلمين مثله فيصفهم بكل تلك الأوصاف البذيئة؟ ألم يجد أسلوبا أرقى من ذلك وأكثر مناسبة لمكانة لمسجد، واحترامًا للمصلين؟ إني لأعجب أشد العجب ممّن يتصدى لتصنيف الآخرين بلا أدنى دليل، بل اعتماداً على الظن، واستجابة لأهواء الأنفس، فتأتي الخطب حاملة في طياتها كمّاً من االشتم والبذاءة وفحش القول بلا خوف من الله، ولا انصياع لتحذيره من مغبة الظن وهوى الأنفس: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ). نلحظ أن جماعة الرفض دأبت منذ تأسيس بلادنا على مقاومة أي جديد يطرأ، إذ يّقابل بعواصف عاتية من الشجب والاستنكار والتحريض على صانعيه، ومع ذلك نجده يفرض نفسه وبقوة لأن العصر وضرورات التنمية تقتضيه، ولوجود مبرر منطقي هو أن الزمن لا يمكن أن يعود للوراء، وأن الأمور والأوضاع الجديدة ستفرض نفسها طال الزمن أم قصر، والمثير للعجب أن مناهضي الجديد هم أول من يتكالب على اقتنائه والاستفادة منه بعد أن يستقر، وأبرز مثال على ذلك الجماعة التي رفضت تعليم البنات قبل نحو ستين عاما، حتى صاروا يلحقون بناتهم بالمدارس بعد أن عرفوا قيمة تعليمهن، بل وطالبوا بتوظيف الكبيرات حافظات القرآن في الكتاتيب، معلماتٍ للقرآن والدين في المدارس النظامية، وجاء بعدهم جمع صحوي حركي في مطلع الثمانينيات الميلادية أخذ على عاتقه رفض كل مستحدث بما في ذلك الأغاني والسينما التي راجت في السبعينيات والستينيات، بل حارب مدن الملاهي وحديقة الحيوان التي منع من دخولها الأطفال ممن بلغوا عشر سنوات من العمر مع أمهاتهم بحجة منع الاختلاط، وقيسوا على ذلك محلات بيع أشرطة الفيديو التي أشعل النيران فيها بعض سفهائهم، ممن تحولوا فيما بعد وصاروا نقادا وشهودا على إرهاب تلك الحقبة. ولا ننسى "الدشات" التي كان مراهقوهم يعطبونها ببنادق الصيد، وكذلك الجوالات المزودة بكاميرا، والقنوات الفضائيَّة، لكن بعد مقاومة المجتمع وإصرار الدولة على بقائها، خنعوا وأصبح اقتناؤها والحضور المستمر في القنوات الفضائية سلوكاً مميزاً لهم، حتى فاقوا فئات المجتمع الأخرى! وهذا نهجهم، إذ يبيحون لأنفسهم ما يمنعون الناس منه، وأوضح دليل على ذلك تحذيرهم البسطاء من التكالب على الدنيا والزهد في نعيمها، وحثهم على التعلق بالآخرة، في الوقت الذي يتهافتون فيه على ما يحذرون العامة منه، فيكاثرون الأموال ويبنون القصور، ويقتنون الملابس الغالية والعطورالفاخرة والأثاث الثمين والسيارات الفارهة، علاوة على الاصطياف في دول الشرق والغرب، دول الكفر كما يسمونها. ناهيكم عن مناهضة برنامج ابتعاث الطلاب والطالبات، الذي ألصقوا به السبع الموبقات، حد اتهامهم بالإلحاد وشرب الخمور وتعاطي المخدرات، ما دعا أحدهم إلى المطالبة بإجراء فحص لدماء المبتعثين عند وصولهم إلى الوطن! ومن ثم صاروا يتسابقون على إلحاق أبنائهم وبناتهم في البرنامج نفسه الذي حذروا منه، بل والدراسة في جامعات دول الكفر نفسها حسب وصفهم، وصاروا يباهون بهم وينشرون صور تخرجهم في تلك الجامعات، فسبحان الله ما أكبر تناقضاتهم!!. لا يخفى على أحد أهمية الثقافة في المجتمعات، التي تنطلق من وعي عميق بأهمية التحولات الحديثة وما تطرحه من تحديات، فهناك علاقة وثيقة بين مستوى التقدم الذي يسود وطنًا ما ونتاجه الثقافي، ومدى مساهمة هذا النتاج في مسيرة التطور الاجتماعي. لكن تتمثل المشكلة التي تعانيها ثقافتنا في أنها نتاج رؤية فصامية أجهضت المشروع الأخلاقي للإسلام لصالح فكر قمعي سلطوي، فكثير من أصحاب هذا التوجه يرفضون التحديث والتجديد بدعوى أن الأخطار محدقة بنا، وأن ديننا مستهدف، والسفينة سوف تغرق! ولهذا فإن ما يطرح في هذا السبيل حافل بالتوترات والرموز والشعارات مما يجعله وسط مأزق الثقافة والوعي المشوّه، مقنعاً لأوساط مجتمعية كثيرة وربما لبعض النخب، وذلك لأنه أولاً يقدم تفسيراً تبسيطياً للرفض، وثانياً لغياب البديل الذي يملك الدعم والقناعات المؤثرة والواعدة بالأفضل. ولهذا فمن الأمور التي تثير دهشة من يتابع الخطاب الديني السائد في مجتمعنا هذه الأيام عن الترفيه، هو التحذير منه لأنه -في اعتقادهم- مدعاة إلى وقوع الناس في الفساد، وانتشارالرذيلة في أوساط المجتمع! وكأن الناس كلهم منفلتون لا يقيمون وزناً للدين ولا للآداب العامة، أناس ينتظرون أن تفتح لهم أبواب الترفيه والاختلاط بالنساء ليقوموا بأسوأ التصرفات! وإذا كان الناس على تلك الدرجة من الاستعداد للفساد كما يصورهم المتشددون، فإننا نسألهم: ماذا كانت تفعل المناهج الدينية التي درسها أولئك الناس منذ طفولتهم؟ ولماذا بقيت مجرد معلومات حُشرت في الأذهان، فلم تؤسس لمنهج أخلاقي يسيرون على هديه في حياتهم، ما يشكل حصانة تقيهم الزلل؟! وإذا كان الأمر كذلك فأين يكمن الخلل؟ أفي المناهج، أم في طرق التدريس، أم في القائمين عليها؟ أما إذ كان ما يقال عن اتهام الناس بالفساد ليس سوى افتراء وترهيب للمجتمع وللدولة معا، فلماذا يُسكت عنه؟ ومتى بوضع حدّ له؟ لاشكّ أن مسؤولية هيئة الترفيه كبيرة تنبع من ضرورة تأسيس برامج ترفيه وثقافة عالية الجودة، تعمل على ترقية المجتمع، ونشرالوعي بين أفراده، ببرامج تناسب جميع الفئات، حتى لا يضطر بعض القادرين وغيرهم إلى السفر إلى دول الجوار لحضورها، على أن تكون بأسعار لا مغالاة فيها، لتناسب قدرة متوسطي الدخل ومحدوديه. ختامًا إن سياسة المنع والتضييق والتحريم لا تخلق مجتمعاً فاضلاً، بقدر ما تنتج أفرادًا مرتبكين وجِلين، ثم إن كان هدف هؤلاء المتشددين المنكرين للترفيه هو تحقيق النقاء للمجتمع ونبذ ما يشوّهه، فيجب عليهم إيجاد حلول عملية من واقع حياتنا المعاصرة وليس من ردهات الماضي؛ وأحسبهم لن يستطيعوا ذلك، لأنهم لا يحسنون شيئا سوى الترهيب وسوء الظن بالناس كافة.