الأمة التي تُمثل قدرًا من الالتزام بقيم القرآن ومعاييره وأوامره ونواهيه عبر العصور وإن كان يحصل لها من الخلل ما يحصل وإن كان فيها من النقص والجهل والظلم والانحراف الشيء الذي لا يخفى إلا أنها مع ذلك تظل أفضل من الأمم الكتابية الأخرى بمراحل، فعندها في مقابل ذلك من الخير والهدى والإيمان والعلم وآثار النبوة ما ليس عند غيرها في واقع حياتها العلمي والعملي، فضلًا عن أنها تمتلك النور الذي لو عملت به لصلحت، وأصلحت ألا وهو الكتاب والسنة الصحيحة. وإشارته سبحانه وتعالى بعد ذلك “وتقطعوا أمرهم بينهم” هي إشارة إلى ما وقعت فيه الأمم الكتابية السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب والمواقف، وتحذير من الله -تعالى- أن هذه الأمة التي أخبر الله أنها أمة واحدة يجب عليها أن تلتزم بالوحدة وألا تسلك مسلك الأمم الكتابية قبلها في الخلاف وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم، كأن هناك أمرًا واحدًا يجمعهم فقاموا وتقطعوه، فكل فئة منهم أخذت قطعة من هذا الأمر، وهذا هو المعنى الذي تجده في السورة الثانية، وهي سورة (المؤمنون) فإن الله ذكر الأنبياء موسى وعيسى وهارون ثم قال سبحانه: “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون” فأكد المعنى نفسه وقرر وحدة الأمة وأنها ليست أُممًا ، ثم قال: “وتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون” فهم تقطعوا هذا الأمر بينهم، ثم قال: “زبُرًا” والزبُر: جمع زَبور والزبور: هو الكتاب؛ لأنه مزبور، أو مسطور، أو مكتوب قال الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رِسْلِ “وآتينا داود زبورًا” فالزبر هي الكتب، هؤلاء تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كأن كل فئة أخذت بجزء من الدين وجانب منه وغفلت عما سواه، وفرحت بهذا الذي أوتيت من العلم وغفلت عما عند غيرها “فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا”. وهذا فيه إشارة إلى مشكلة الخلاف العلمي الذي يعصف بالأمة والذي لا يكون مبنيًا على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة، وإنما داخله شيء من الهوى، أو الغرور، الذي جعل الأمر خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فهي إشارة إلى خطورة الخلاف العلمي، أو التجاذب العلمي الانتقائي، الذي يتجلبب بجلباب العلم ولكنه يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضًا ، أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر ؛ ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: “كل حزب بما لديهم فرحون” فهذا يوحي إلى أنهم نسوا انتماءهم إلى الأمة وتحولوا إلى أحزاب متناحرة، وليس الخلاف المشروع المنسجم مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية والذي كان موجودًا في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وسواهم. فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها واختارها وغفل عما سواها، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال، وهؤلاء فهموا شيئًا وتحالفوا عليه، ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر، وهكذا وُجِد الخلاف في الأمة “كل حزب بما لديهم فرحون”. وهنا أُشير إلى معنى مهم وهو أن الله -سبحانه وتعالى- في مواضع من القرآن الكريم ومن السنة النبوية منه ما يبلغ مبلغ التواتر وهو أن الله -سبحانه وتعالى- جعل للمسلمين من المظاهر والعقائد والمعاني والأحوال والأحكام ما يخالفون به غيرهم من الأمم المنحرفة كاليهود والنصارى، ونهانا الله -سبحانه وتعالى- عن التشبه بهم كما في قوله تعالى: “ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم” فنهانا عن التشبه بهم في أعمال القلوب، كما نهانا عن التشبه بهم في الخلاف، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- لما ذكر اليهود وما جرى لهم: “تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون” فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين، وضعف عليهم العقل أيضًا ؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم، فالمحكمات في القرآن والسنة دلت على أن هذه الأمة ينبغي أن تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها، وعقائدها، وسلوكها، وخصوصياتها لكن ليس هذا التميّز مطلبًا شرعيًا داخل هذه الأمة إلا عن المنحرفين كأهل البدع، وأهل المعاصي والفسوق وغيرهم ممن يجاهرون بذلك ويتظاهرون به، وإلا فالأصل ألا يحرص المسلم على ألا يتميز عن إخوانه المسلمين، بمعنى أن يكون التميز هدفًا بذاته ومقصدًا يختاره إما في هيئته ولباسه أو في عمله أو غير ذلك، إلا ما كان من أمر الدين ومن أمر الشرع الذي أهمله الناس فهو يحيي ما اندرس من أمر الملة، فإنه يحيي السنة التي قد أميتت، أما كون الإنسان يتعمد أن يخالف الناس في أشياء ليست من السنة، فإن هذا قد يكون من الشهرة التي ورد النهي عنها والتحذير منها كما في حديث ابن عمر مرفوعًا: “من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة”.