ثمة توضيحٌ لابد منه في هذه القضية.. يتعلق التوضيح المذكور بنوعٍ من (التطابق) يبدو أن الإسلاميين يحرصون على إشاعته والإحالة إليه بقصدٍ أو بغير قصد، حين يوحون دائماً بالتطابق الكامل بين (الإسلام) وبين حركاتهم وأحزابهم وجماعاتهم.. وبالتالي فإن أي نقدٍ لهم ولاجتهاداتهم يمثل نقداً للدين.. وليس لاجتهاداتهم وبرامجهم وطرق تفكيرهم. هذا الربط المتعسّف ينبغي أن يُحذف نهائياً من المعادلة بشكلٍ نهائي وناجز في كل ما يتعلق بمثل هذه الحوارات، لأنه يقتل هدفها الأصلي لحظة بداية الحوار.. ففي خِضمّ الفوضى الثقافية والسياسية السائدة، تُساهمُ هذه العملية في نشر الانطباع المتعلق بالربط الموهوم، المذكور أعلاه، بين كثيرٍ من المسلمين.. وتُغلق أبواب المراجعة والنقد المطلوبة بإلحاح. هذا مطلوبٌ كي لا نُغلق بسيف الإرهاب الفكري نوافذ المراجعة والتفكير بشأنٍ مؤثرٍ في حياتنا.. والأهم من ذلك، كي لا نظلم الإسلام نفسه، فلا نسمح لأحدٍ، خاصةً بين شرائح الحركيين السياسيين ورجال الدين، بأن يدَّعي نوعاً من الاحتكار للإسلام عبر التماهي فيه، بما يُحيل إلى وضعٍ يُشبه فكرة ديغول عن فرنسا تجعلهم يقولون بلسان الحال: «أنا الإسلامُ والإسلامُ أنا».. نعود لموضوعنا مع استماحة القارئ الكريم عذراً لإيراد أفكار أشرنا إليها سابقاً في مواضع متفرقة.. ونبدأ بالتعريف. لا مجال لبحثٍ أكاديمي عن معنى الثقافة وتعريفها المقصود هنا، بل نقتصر على ثلاثة أمثلة، أحدها عربي والآخران غربيا المصدر، لاستعمالها ببساطة، وبعيداً عن أي تعقيدٍ نُخبوي. فالمعاجم تذكر أن الثقافة في اللغة العربية هي أساساً الحَذقُ والتمكُّن، وثَقَفَ الرمح أي قوَّمَهُ وسوﱠاه.. ويُستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناً من العلوم والفنون والآداب.. ويُقال ثَقِفَ الشيء إذا أدركه وحذقه ومهر فيه، والثقيف هو الفطين، وثَقْفُ الكلام فهمُهُ بسرعة. أما العالم البريطاني من أصلٍ بولندي، برونسيلاف مالينوفسكي، فيعرﱡفها قائلاً: «الثقافة هي جهازٌ فعال ينتقل بالإنسان إلى وضعٍ أفضل، وضعٍ يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية». هناك تعريفٌ آخر مهم للمستشرق النمساوي، غوستان فون غرونبوم، يقول إن: «الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مُركَّباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة». بدون إطالةٍ في الشرح والتفصيل، ومن خلال استقراء الواقع الراهن للجماعات والحركات الإسلامية، تبدو ثمة خصومةٌ تاريخية، تكاد تكون شاملة، بين الإسلاميين وبين الثقافة، بكل المعاني الواردة في التعريفات المذكورة أعلاه. بطبيعة الحال، لا يكمن الجهد المطلوب لتقديم الإجابات على المآزق الإنسانية في تضخيم المَلزمة الفقهية التاريخية، والإحاطة بتفاصيلها الدقيقة، والعمل على إشاعة المعرفة بها، وهذا أمرٌ سنعود لتفصيله في الجزء الثاني من المقال. بعيداً عن التعميم، نعيد التذكير أن حديثنا عن الظاهرة يتعلق بالتكوينات المؤسسية السياسية والحركية الإسلامية على اختلاف مجالاتها ومُسمياتها، وعلى أفراد هذه التكوينات.. إذ يوجد بالتأكيد أفرادٌ، ربما يصفون أنفسهم بأنهم إسلاميون بمعنى من المعاني، ممن لم يتصالحوا فقط مع الثقافة، وإنما حاولوا ويحاولون مصالحتها مع الدين.. بل ربما نقول، يحاولون استعادة علاقتها الطبيعية الأصيلة مع الدين. ما من تناقضٍ أو عداءٍ يُذكر بين الثقافة والدين، في فهمه الأصيل، حين يتعلق الأمر بالتعاريف الواردة بداية المقال.. فالدين يهدف إلى الانتقال «بالإنسان إلى وضعٍ أفضل، وضعٍ يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية»، كما عرّفَ ماليونيسكي الثقافة.. أين التعارض في هذا؟ لكن السؤال يكمن في ممارسة الإسلاميين عندما يتعلق الأمر بالتعريف الثاني الذي يُعبّرُ عن الثقافة بأنها: «الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية».. هذا جوهرُ القضية، وموضوع الجزء التالي من المقال.