السعودية تحقق أعلى مستوى تقييم في قوانين المنافسة لعام 2023    دجاجة مدللة تعيش في منزل فخم وتملك حساباً في «فيسبوك» !    «الأصفران» يهددان الأخدود والرياض.. والفيحاء يواجه الفتح    الاتحاد يتحدى الهلال في نهائي كأس النخبة لكرة الطائرة    أشباح الروح    بحّارٌ مستكشف    جدة التاريخية.. «الأنسنة» بجودة حياة وعُمران اقتصاد    منها الطبيب والإعلامي والمعلم .. وظائف تحميك من الخرف !    النوم.. علاج مناسب للاضطراب العاطفي    احذر.. الغضب يضيق الأوعية ويدمر القلب    دي ليخت: صافرة الحكم بدون نهاية الكرة أمر مخجل ويفسد كرة القدم    المملكة ونمذجة العدل    خادم الحرمين يرعى مؤتمر مستقبل الطيران الدولي.. 20 الجاري    القيادة تعزي رئيس البرازيل    14.5 مليار ريال مبيعات أسبوع    محافظ قلوة يدشن أعمال ملتقى تمكين الشباب بالمحافظة.    البلوي يخطف ذهبية العالم البارالمبية    مدرب أتالانتا: مباراة مارسيليا الأهم في مسيرتي    91 نقطة أعلى رصيد (نقطي) في تاريخ الكرة السعودية.. رقم الحزم التاريخي.. هل يصمد أمام الزعيم؟    هدف أيمن يحيى مرشح للأجمل آسيوياً    مهرجان المنتجات الزراعية في ضباء    نائب أمير منطقة مكة يكرم الفائزين في مبادرة " منافس    ختام منافسة فورمولا وان بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي    كشافة شباب مكة يطمئنون على المهندس أبا    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    أسرة آل طالع تحتفل بزواج أنس    مذكرة تعاون واجتماع مجلس الأعمال.. المملكة وتايلند تعززان العلاقات الاقتصادية والتجارية    سعود بن جلوي يرعى حفل تخريج 470 من طلبة البكالوريوس والماجستير من كلية جدة العالمية الأهلية    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    الوعي وتقدير الجار كفيلان بتجنب المشاكل.. مواقف السيارات.. أزمات متجددة داخل الأحياء    عدوان الاحتلال.. قتل وتدمير في غزة ورفح    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات في البرازيل إلى 95 قتيلاً    نائب أمير الشرقية يلتقي أهالي الأحساء ويؤكد اهتمام القيادة بتطور الإنسان السعودي    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    تغيير الإجازة الأسبوعية للصالح العام !    الذهب من منظور المدارس الاقتصادية !    أعطيك السي في ؟!    الاتصال بالوزير أسهل من المدير !    أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة من اليوم وحتى الإثنين.. والدفاع المدني يحذّر    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    مسؤول مصري ل«عكاظ»: مفاوضات القاهرة مستمرة رغم التصعيد الإسرائيلي في رفح    حماس.. إلا الحماقة أعيت من يداويها    35 موهبة سعودية تتأهب للمنافسة على "آيسف 2024"    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس مجلس إدارة شركة العثيم    "الداخلية" تنفذ مبادرة طريق مكة ب 7 دول    وزير الشؤون الإسلامية يدشّن مشاريع ب 212 مليون ريال في جازان    أمير تبوك يشيد بالخدمات الصحية والمستشفيات العسكرية    «حِمى» أصداء في سماء المملكة    إحباط مخطط روسي لاغتيال زيلينسكي    «أسترازينيكا» تسحب لقاح كورونا لقلة الطلب    انطلاق المؤتمر الوطني السادس لكليات الحاسب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    المدح المذموم    البدر والأثر.. ومحبة الناس !    انتهاك الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلمان بن فهد العودة
الأمة الواحدة ( 2 )
نشر في الجزيرة يوم 18 - 08 - 2002

والأمة التي تمثل قدرا من الالتزام بقيم القرآن ومعاييره وأوامره ونواهيه عبر العصور وإن كان يحصل لها من الخلل مايحصل وإن كان فيها من النقص والجهل والظلم والانحراف الشيء الذي لايخفى إلا أنها مع ذلك تظل أفضل من الأمم الكتابية الأخرى بمراحل، فعندها في مقابل ذلك من الخير والهدى والإيمان والعلم وآثار النبوة ما ليس عند غيرها في واقع حياتها العلمي والعملي، فضلاً عن أنها تمتلك النور الذي لو عملت به لصلحت، وأصلحت ألا وهو الكتاب والسنة الصحيحة.وإشارته سبحانه وتعالى بعد ذلك {وّتّقّطَّعٍوا أّمًرّهٍم بّيًنّهٍمً} هي إشارة إلى ما وقعت فيه الأمم الكتابية السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب والمواقف، وتحذير من الله -تعالى - ان هذه الأمة التي أخبر الله أنها أمة واحدة يجب عليها ان تلتزم بالوحدة وألا تسلك مسلك الأمم الكتابية قبلها في الخلاف وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم، كأن هناك أمراً واحداً بجمعهم فقاموا وتقطعوه، فكل فئة منهم أخذت قطعة من هذا الأمر، وهذا هو المعنى الذي تجده في السورة الثانية، وهي سورة (المؤمنون) فإن الله ذكر الأنبياء موسى وعيسى وهارون ثم قال سبحانه: {وّإنَّ هّذٌهٌ أٍمَّتٍكٍمً أٍمَّةْ وّاحٌدّةْ وّأّنّا رّبٍَكٍمً فّاتَّقٍونٌ} فأكد المعنى نفسه وقرر وحدة الأمة وأنها ليست أمماً، ثم قال {فّتّقّطَّعٍوا أّمًرّهٍم بّيًنّهٍمً زٍبٍرْا كٍلٍَ حٌزًبُ بٌمّا لّدّيًهٌمً فّرٌحٍونّ} فهم تقطعوا هذا الأمر بينهم، ثم قال: «زبُراً» والزبُر: جمع زبور والزبور: هو الكتاب؛ لأنه مزبور، أو مسطور، أو مكتوب قال الشاعر:
تمني كتاب الله أول ليله
تمني داود الزبور على رسْل
{وّآتّيًنّا دّاوٍدّ زّبٍورْا} فالزبر هي الكتب، هؤلاء تقطعوا أمرهم بينهم زبراً كان كل فئة أخذت بجزء من الدين وجانب منه وغفلت عما سواه، وفرحت بهذا الذي أوتيت من العلم وغفلت عما عند غيرها {فّتّقّطَّعٍوا أّمًرّهٍم بّيًنّهٍمً زٍبٍرْا}.
وهذا فيه إشارة إلى مشكلة الخلاف العلمي الذي يعصف بالأمة والذي لايكون مبنياً على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة، وإنما داخله شيء من الهوى، أو الغرور، الذي جعل الأمر خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فهي إشارة إلى خطورة الخلاف العلمي، أو التجاذب العلمي الانتقائي، الذي يتجلبب بجلباب العلم ولكنه يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضا، أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى: {كٍلٍَ حٌزًبُ بٌمّا لّدّيًهٌمً فّرٌحٍونّ} فهذا يوحي إلى أنهم نسوا انتماءهم إلى الأمة وتحولوا إلى أحزاب متناحرة، وليس الخلاف المشروع المنسجم مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية والذي كان موجودا في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وسواهم.فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها واختارها وغفل عما سواها، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال، وهؤلاء فهموا شيئا وتحالفوا عليه، ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر، وهكذا وُجِد الخلاف في الأمة {كٍلٍَ حٌزًبُ بٌمّا لّدّيًهٌمً فّرٌحٍونّ}.
وهنا أشير إلى معنى مهم وهو أن الله - سبحانه وتعالى - في مواضع من القرآن الكريم ومن السنة النبوية منه ما يبلغ مبلغ التواتر وهو أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلمين من المظاهر والعقائد والمعاني والأحوال والأحكام ما يخالفون به غيرهم من الأمم المنحرفة كاليهود والنصارى، ونهانا الله - سبحانه وتعالى - عن التشبه بهم كما في قوله تعالى: {أّّلّمً يّأًنٌ لٌلَّذٌينّ آمّنٍوا أّن تّخًشّعّ قٍلٍوبٍهٍمً لٌذٌكًرٌ اللهٌ وّمّا نّزّلّ مٌنّ الحّقٌَ وّلا يّكٍونٍوا كّالَّذٌينّ أٍوتٍوا پًكٌتّابّ مٌن قّبًلٍ فّطّالّ عّلّيًهٌمٍ الأّمّدٍ فّقّسّتً قٍلٍوبٍهٍمً} فنهانا عن التشبه بهم في أعمال القلوب، كما نهانا عن التشبه بهم في الخلاف، ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى- لما ذكر اليهود وما جرى لهم: {لا يٍقّاتٌلٍونّكٍمً جّمٌيعْا إلاَّ فٌي قٍرْى مٍَحّصَّنّةُ أّوً مٌن وّرّاءٌ جٍدٍرُ بّأًسٍهٍم بّيًنّهٍمً شّدٌيدِ تّحًسّبٍهٍمً جّمٌيعْا وّقٍلٍوبٍهٍمً شّتَّى" ذّلٌكّ بٌأّنَّهٍمً قّوًمِ لاَّ يّعًقٌلٍونّ} فأشار إلى ان الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لايقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين، وضعف عليهم العقل أيضاً؛ لأن العقل يقتضي ان يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون ان يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم، فالمحكمات في القرآن والسنة دلت على أن هذه الأمة ينبغي ان تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها، وعقائدها، وسلوكها، وخصوصياتها لكن ليس هذا التميز مطلباً شرعياً داخل هذه الأمة إلا عن المنحرفين كأهل البدع، وأهل المعاصي والفسوق وغيرهم ممن يجاهرون بذلك ويتظاهرون به، وإلا فالأصل ألا يحرص المسلم على ألا يتميز عن اخوانه المسلمين، بمعنى ان يكون التميز هدفاً بذاته ومقصدا يختاره إما في هيئته ولباسه أو في عمله أو غير ذلك، إلا ما كان من أمر الدين ومن أمر الشرع الذي أهمله الناس فهو يحيي ما اندرس من أمر الملة، فإنه يحيي السنة التي قد أميتت، أما كون الإنسان يتعمد ان يخالف الناس في أشياء ليست من السنة، فإن هذا قد يكون من الشهرة التي ورد النهي عنها والتحذير منها كما في حديث ابن عمر مرفوعاً: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة» رواه أبو داود (4029) وابن ماجه (3606) بسند حسن.
وقد كان السلف يكرهون الشهرة حتى في بعض الأعمال التي قد يكون لها أصل، لكن هذا الأصل ليس بظاهر أو ليس بقوي، فيحبون موافقة الناس ويكرهون مخالفتهم إذا لم يكن في الأمر تشريع أو سنة صحيحة، وقد رأيت بعض الاخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص وغفلتهم عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميّز؛ لأن هذا نوع من العلو أو التفوق عليهم، أو طلب الرياسة فيهم، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها، أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه، أو بعمل خير عمله وقصد ان يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى.
إن الله - تعالى - عقد أواصر الأخوة بين المؤمنين، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا المعنى في كثير من الأحاديث التي بينت حقوق المسلم على أخيه، ولايتسع المجال لسرد هذه الأحاديث، لكن أذكر بعض هذه الحقوق على سبيل الإجمال:
أولاً: الحقوق القلبية، وأعني بها: مايتعلق بقلب المسلم ومحبته لأخيه المسلم وحسن ظنه به وسلامة صدره قبله، والفرح بما يصيب اخوانه المسلمين من الخير والحزن لما يعرض لهم من الشر، فإذا علم المسلم بأمر خير أصاب اخوانه المسلمين وجب عليه ان يسر بذلك ويفرح ويغتبط {قٍلً بٌفّضًلٌ اللهٌ وّبٌرّحًمّتٌهٌ فّبٌذّلٌكّ فّلًيّفًرّحٍوا} لأنه يرى ان ما أصاب إخوانه المسلمين من الخير أصابه، وما كسبوه من المال كأنما كسبه، وهكذا كل خير وقع لهم، وعلى النقيض من ذلك يحزن لكل مصاب يقع بهم، حتى ولو كان فرداً عثر في شرق الأرض أو غربها، أو مسلمة انتهك عرضها، أو شعب من الشعوب نزلت به نازلة، أو أصابته جائحة أو اعتدى عليه معتدٍ، فيشعر بالحزن لهذا، وهذا أقل ما يجب للمسلم على المسلم وهذا النوع من الحزن حزن مشروع، نعم. لم يتعبدنا الله - سبحانه وتعالى - بالأحزان وحدها، لكن هذه المعاني القلبية هي الوقود والدافع الذي يحمل الإنسان على الفعل، فإن أقل ما يفرزه هذا الشعور - إذا كان صحيحاً- الفرح للمسلمين ان إصابتهم سراء أو الحزن إذا أصابتهم بأساء أو ضراء ان ينتج:
ثانياً: الحقوق اللسانية: لأخيك المسلم عليك، كرد السلام، وتشميت العاطس والثناء بالخير على من يستحقه، والتعليم للجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والدعاء والتضرع لهم وهذا بعض اثر الشعور القلبي الذي تحمله لاخوانك المسلمين فإن الدعاء لهم أمر لايستهان به، وربما دفع الله بالدعاء شراً عن المسلمين، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {ادًعٍوا رّبَّكٍمً} وقال جل شأنه: {ادًعٍونٌي أّسًتّجٌبً لّكٍمً} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الدعاء هو العبادة» والحديث صحيح رواه الترمذي (3247)، وأبو داود (1479). ومن مأثور قول الشافعي -رحمه الله-:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
وما تدري بما صنع الدعاء؟
سهام الليل لا تخطي ولكن
لها أجل وللأجل انقضاء
ولو لم يكن من آثار هذا الشعور الطيب وهذا العمل الذي يعمله المسلم من حركة اللسان بالثناء على أهل الخير، أو التوجيه، أو التعليم، أو النصرة، أو الدعاء، إلا تحقيق معنى الانتماء لهذه الأمة لكفى؛ لأنه لا يصح بحال من الأحوال أن تنتمي لهذه الأمة وتزعم أنك فرد من أفرادها، ثم لاتقدم لاخوانك الذي يشاركونك هذا الانتماء أي مشاركة، وسيان عندك فرحوا، أم حزنوا، انتصروا أم انهزموا، أخطؤوا أم أصابوا.فهذا لايكون أبداً، وإنما الحال كما قال القائل:
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
ولي بطيبة أوطان مجنحة
تسمو بروحي فوق العالم الثاني
دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها
أعظم بأحمد من هادٍ ومن بانِ
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً
الشام فيه ووادي النيل سيانِ
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ
عددت ذاك الحمى من لب أوطاني
إذاً ينبغي ان نحقق الانتماء لهذا الدين، بالتعاطف مع إخواننا المسلمين ولو كان ذلك باللسان، وأقل ما يستطيع ان يقدمه الإنسان كلمة حق، أو دعوة صالحة لأخيه المسلم بظهر الغيب.
ثالثاً: الحقوق المالية، كالصدقة، والزكاة، والإحسان، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، وغير ذلك من الحقوق التي جعلها الله في أموال المسلمين، قال الله تعالى: {وّالَّذٌينّ فٌي أّمًوّالٌهٌمً حّقَِ مَّعًلٍومِ لٌلسَّائٌلٌ وّالًمّحًرٍومٌ} وقال بعض العلماء بل ورد مرفوعاً ولكنه لا يثبت في المال حق سوى الزكاة.وقد يكون عند المسلمين في بعض الظروف من الفاقة والفقر وشدة الحاجة والعوز ما يوجب على أهل الغنى، والجدة، واليسار ان ينفقوا، ويبذلوا لاخوانهم المسلمين.
رابعاً: الحقوق البدنية، كنصرة المظلوم، وفك الأسير، وإغاثة المستغيث، ونجدة الملهوف، والمساعدة بما يستطيعه الإنسان، كما ورد تفصيل ذلك كثيراً في السنة، بل هناك ماهو أبعد وأوسع من هذا التقسيم، وهو ما يعبر عنه بعض العلماء المعاصرين بأنه: توفير الحاجات الإنسانية لكل منتم لهذه الأمة، ويصنف العلماء المتأخرون الحاجات الإنسانية إلى خمسة أصناف تقريباً:
الأول: الحاجات الحيوية، كالطعام، والشراب، واللباس والمسكن، والزواج فهذه الأشياء إذا نقصت الإنسان فإنه يفكر بها، ولايعود قادراً ان يقدم خيراً لأمته، أو لبلده أو لأسرته، أو لوالديه فلهذا كانت أول الحقوق، وهكذا تجد الترتيب في القرآن الكريم.
الثاني: الحاجة إلى الأمن، وهو ان يأمن الإنسان على حاجاته الأساسية، ويتحرر من الخوف سواء كان خوفاً من الإيذاء الجسدي أو الإيذاء النفسي والمعنوي، أو خوفاً من الحرمان من حاجاته الضرورية كحرمانه من الطعام أو الشراب أو اللباس، أو السكن أو ما أشبه ذلك، ولهذا هنا تجد في القرآن الكريم في غير موضع كما في قوله تعالى: {الذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ} فبدأ بالحاجات الحيوية العضوية، وثنى بالحاجات النفسية وقال الله -تعالى - في الآية الأخرى: {فّأّذّاقّهّا اللهٍ لٌبّاسّ الجٍوعٌ وّالًخّوًف} فإن الخائف لايستطيع ان ينتج، ولا أن ينجز، ولا أن يقوم بعمل.
الثالث: الحاجة إلى الانتماء، وذلك ان الإنسان بطبعه كائن اجتماعي جبله الله - سبحانه وتعالى - على حب الأنس بالآخرين، والركون إليهم، والحديث معهم، ولهذا يقال: إن الإنسان لو جلس فترة طويلة لايتكلم ربما يموت، وقد جرى ان ملكاً من ملوك قبرص جمع مجموعة من الأطفال وأبقاهم فترة طويلة معزولين عن الناس ووفر لهم حاجاتهم، فهم يأكلون ويشربون، لكن لايكلمهم أحد، ولايكلمون أحداً، فلم تمر بهم فترة طويلة حتى ماتوا.
فالإنسان محتاج لمن يكلمه، ويأخذ عنه، ويحاوره، وقديماً قيل:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وأنت ترى الإنسان يكلم شخصاً وهو لايقصد ان يشتكي إليه بقدر ما يقصد ان يبوح له بهمه، ويسمعه مايقاسيه من العناء، وهنا جانب مهم جداً وهو الشعور بالانتماء، فلا يستطيع الإنسان ان يعيش في عزلة عن الناس، ولذا تجد الخطاب في القرآن الكريم خطاباً جماعياً {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا}، {وّالًعّصًرٌ إنَّ الإنسّانّ لّفٌي خٍسًرُ إلاَّ الذٌينّ آمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ} وقال الله تعالى: {قٍل لٌَلًمٍؤًمٌنٌينّ يّغٍضٍَوا مٌنً أّبًصّارٌهٌمً} {وّقٍل لٌَلًمٍؤًمٌنّاتٌ}، وقوله تعالى: {وّتّعّاوّنٍوا عّلّى البٌرٌَ وّالتَّقًوّى" وّلا تّعّاوّنٍوا عّلّى الإثًمٌ والًعٍدًوّانٌ }، وفي هذا إيماء وإشارة إلى حاجة الإنسان لمعنى الانتماء، وانه لايتحقق معنى الإسلام بدونه، فالصلاة جماعة، والحج جماعة، والصوم جماعة، فكيف نستطيع ان نطبق أخلاقيات الإسلام إلا بالمعايشة؟ كيف تعرف ان كنت حليماً أم لا؟ إن كنت صبوراً أم لا؟ إن كنت كريماً؟ إن كنت شجاعاً؟ إلا من خلال مجموعة تعايشهم، وتعاملهم وتتفاعل معهم، يصبرون عليك وتصبر عليهم، يحلمون عنك وتحلم عنهم، إلى غير ذلك.
الرابع: الحاجة إلى التقدير، وذلك ان الإنسان بعد ماينتمي إلى هذه الأمة يكون عنده حاجة فطرية إلى أن يجد منهم التقدير، وينال احترام الآخرين الذين ينتمي إليهم، ويشعر أنه مفيد لهم ولو في بعض الأمور، وان له بعض التأثير فيمن حوله، حتى ان الإنسان لولم يحصل على مثل هذه الأشياء لربما لجأ إلى ما يسميه العلماء (السلوك التدميري)، أو (النشاط المشوش غير الناضج) من أجل إثبات ذاته، ولهذا ترى كيف أثنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قبائل، وعلى أشخاص، وعلى أمم وعلى بلاد، وعلى جهاد أناس بأعيانهم، وهذا كثير جداً في السنة، حتى صنف فيه أهل العلم، كمصنف الإمام أحمد في (فضائل الصحابة)، وفيه ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشج عبدالقيس، وما أثنى به عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - فهم يستحقونه، ويكفيهم فخراً ان يثني عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك ثناء الله عليهم -سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم {لّقّد تَّابّ اللّهٍ عّلّى النَّبٌيٌَ وّالًمٍهّاجٌرٌينّ وّالأّنصّارٌ} إلى غير ذلك من المواطن، وتجد الرسول -صلى الله عليه وسلم - أيضاً يثني على حديث العهد بالإسلام، ولايلزم ان يكون الأمر ثناء مجرداً، فأحياناً تكون لفتة لها معنى كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» رواه مسلم (1780) وقال لهم: «من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» رواه أبو داود (3022). فمن الذي سيترك بيته، أو بيت الله الحرام ويدخل دار أبي سفيان، ولكن هذه كانت لفتة فيها نوع من الاعتبار والتقدير لأبي سفيان، وفيها تأليف له على الإيمان وعلى الإسلام، وكان آنذاك حديث عهد بالإسلام، كما تألف قلوب أقوام بالأموال وغيرها، فإن الجاه له مكانة في النفس لا تقل عن مكانة المال، فحاجة الإنسان إلى ذلك أمر فطري جبلّي ركبه الله فيه، وجعل في الشريعة مايكمله وما يلبيه.
الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات، يحتاج الإنسان ان يحقق ذاته تلبية لشعور داخلي فنجد ان قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (3084): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» ورواه الترمذي (1376)، والنسائي (3651) يتردد في أذهان كثير من الناس فيفكرون في هذه المعاني فيسعون لتمثلها من خلال مضاعفة العمل والإنتاج، ومحاولة ان يخلد الإنسان نفسه بعمل معين، طمعاً فيما عند الله - سبحانه وتعالى - من الثواب، تجد من يحرص على ان تكون وراءه صدقة جارية تبقى بعد موته، أو علم ينتفع به، ويتداول ويترحم عليه بسببه بعد موته، أو ولد صالح يكون امتداداً لأبيه وبقاء لاسمه، وبقاء لأجره وثوابه، فهذا مما يدخل في تحقيق الذات.وهذه هي الحاجات التي تدور حولها متطلبات الإنسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.