بفضل الله سبحانه وتعالى وفق ولاة أمرنا بحسن اختيار وزراء المالية منذ بداية تأسيس المملكة على يد جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، حيث كان الوزير عبدالله بن سليمان أول وزير مالية.. واستمرت المسيرة الموفقة إلى يومنا هذا حيث نصب الوزير محمد الجدعان في آخر تشكيل وزاري في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان. والواقع ان اختيار الأستاذ الجدعان لاقى ترحيباً من المؤسسات الاقتصادية المحلية والدولية واعتبر رسالة قاطعة بالتزام الحكومة بتنفيذ رؤية 2030 لكل بنودها وحسب الجدول الزمني المعتمد فيها. ومعروف أن الرجل يعتبر مرجعاً في القانون التجاري ومختلف مسائل وقضايا هيكلة وإعادة تنظيم الأنظمة الاقتصادية والتجارية بحكم خبرته وتمرسه وخاصة خلال عمله مدة طويلة في القطاع الخاص. لهذا كله كان تفاؤلنا بقدومه كبيراً للغاية.. ولم يخلف الرجل ظننا فها هو يبادر وبدعم زملائه المسئولين في الوزارة بنشر مسودة نظام المشتريات الجديد. وبمراجعتي لهذه المسودة سرني أنها تخلصت من بعض الملاحظات على عقد النظام المالي ومع هذا فلي ملاحظات أود أن أسردها هنا باختصار شديد: 1- نظام المشتريات الحكومية يعتبر أهم أدوات تشجيع أصحاب الأعمال والثروات المحليين والعالميين على الاستثمار والعمل في أي دولة. وقد يصح العكس تماماً.. إذ إنه قد يكون أكبرمثبط وطارد للاستثمار إذا لم يلمس المستثمر في النظام اشتماله على حد معقول من الضمانات التي تصون حقوقه ومصالحه.. 2- لو عدنا بالذاكرة إلى فترة الثمانينيات الميلادية لوجدنا كبريات الشركات العالمية ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هونداي - كنج نام - دوميز - بوينج - ا س آ ئ - ومبي - فيليب هولز مان - سكانسكا - آي اتش جي، وغيرهم، فهؤلاء كان تواجدهم كبيراً وهم من قام بتنفيذ مشاريعنا العملاقة بما في ذلك المطارات الدولية - الجامعات الكبرى - المستشفيات - المساكن - الطرق والمصانع وغيرها.. ومنها استفاد المقاولون المحليون الخبرات، وبالتالي تأسست شركات سعودية كثيرة، ولكن بعد أن اكتوت الشركات العالمية بمصيبة نظام المشتريات وعقود الإذعان خرجت من سوقنا ولم تعد حتى اليوم ولن تعود إلا إذا غيرنا بنود النظام. و هذا ما حصل للشركات في قطاعات الأعمال الأخرى. مسودة النظام الحالي في نظري تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر لتخدم مصلحة المملكة في مرحلة 2030. 3- ففي الوقت الذي رفعت حد الغرامات من 10% إلى 20% وهي الغرامات التي تطبقها الإدارة بمحض تقدير ممثليها وبدون موافقة أو علم الطرف الآخر (الضعيف) فإنها لم تشر من قريب أو بعيد إلى أي غرامات أو جزاءات موازية بحق الطرف الأول القوي المهيمن، بل وقد أجاز مشروع النظام زيادة النسبة المشار إليها بموافقة الوزير دون تقييد تلك الصلاحية بأي سقف أعلى مما يجعل المتعاقد تحت رحمة الجهة الإدارية تماماً (انظر المواد 89 و90 من المشروع). ثم إن النظام المقترح أعطى الحق للإدارة بإنقاص حجم العمل بنسبة تصل إلى 20% دون أي اعتبار لمردود هذا الإجراء وما يتسبب به من أضرار وخسائر للطرف الآخر.. ورغم أن ذاك هو الحال في ظل النظام الحالي، لكن طالما أن الغاية هي الإصلاح فلابد من إعادة النظر في هذه النسبة التي تجافي مقتضيات المعقولية والعدالة، فماذا لو أن مقاولاً يعمل في نظافة إحدى المدن بعدد عمال يصل إلى 10.000 فرد ومعدات تكلفت 40 مليون ريال ثم فجأة تصله التعليمات بإنقاص العقد 20%.. فماذا عما سيفقده من ربح يوازي 20% من قيمة العقد وماذا عن تكلفة إنهاء خدمات العمال وعددهم 2000 فرد من تعويضات ورواتب وتذاكر طيران، مع الأخذ في الاعتبار أن نظام العمل قد أحاط حقوق العمالة بسياج عالٍ من الحماية بحيث يلزم صاحب العمل بأداء تلك الحقوق دون النظر إلى أي ظروف قد تطرأ عليه مهما كانت قاسية، هذا فضلا عن الجزاءات الصارمة التي توقع على صاحب العمل.. وماذا عن المساكن التي استأجرها والتزم بها لمدة خمس سنوات.. وماذا وماذا ؟؟ مئات السيارات وكذلك عقود توريد مختلف المعدات أو تجهيز مستشفيات بالكامل أو جامعات.. وكذا الحال لمن تعاقد على عقود تنفيذ مشاريع إنشائية أو طرق بمئات الملايين، كيف سيتحمل أضرار إنقاص 20% من قيم العقود بكل ما يترتب على ذلك من خسائر وأضرار ستلاحق الشركات المتضررة؟ 4- ثم إن الإدارات الحكومية تعلن عن منافسة وتحدد موعد التقدم لها وفتح المظاريف بعد شهر أو شهرين، وبعد شراء المستندات يتضح لكل مختص أن حجمها كبير وبنودها متشعبة وتحتاج للدراسة السليمة لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر.. ولكن بمراجعة الإدارة تكون الإجابة أن المشروع هام وملح ومطلوب تنفيذه بأقرب فرصة وبالتالي يرفض طلب التمديد.. ولكن تكون المفاجأة أن المظاريف تحفظ على الرفوف أشهرا طويلة بدون أن ينظر فيها وبالتالي قد يستغرق البت في المنافسة مدة ما بين 6 إلى 12 شهرا أو أكثر.. هنا لابد أن يعالج النظام أو اللائحة التنفيذية هذه الظاهرة.. 5- مسئولية المتعهد محددة بدقة تامة والعقاب في حالة تقصيره وضعت له بنود عديدة.. ولكن ماهي مسئولية الطرف الأول (الحكومة)؟ الجواب: لا شيء.. على أن أول وأهم بند في مسئوليات الحكومة ينبغي أن يكون صرف المستحقات في وقتها ليس يوماً متقدماً ولا يوماً متأخرا، وهذا مبدأ متعارف عليه في كل نظم القانون الإداري، وهو أدعى بالاتباع. وفي نظري أن لا حل لهذا الأمر الا بأن يكون أطراف التعاقد ثلاثة: الحكومة والمتعهد وبينهما البنك.. فمتى ختمت الحكومة على أوراق المستخلص اعتمد البنك الصرف بدون سؤال ولا جواب، ونرى أن هذه الآلية عملية وعادلة في ذات الوقت. على أن تتحمل الحكومة محاسبة البنك على مستحقاته وبهذا تتلاشى المظاهر التي نراها أمام أعيننا حيث يتأخر تنفيذ مشاريع يكون المواطن في أمس الحاجة لها.. والعامل الذي يعد الساعات والأيام ليستلم راتبه نهاية الشهر وقل نفس الشيء عن مقاول الباطن ومورد المواد والمصنع وانتهاء بالمقاول الرئيسي. إنها حلقات مترابطة في سلسلة الاقتصاد يشد بعضها بعضاً إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل. 6- من الواقع الساري المفعول ومنذ أمد بعيد أن الإدارة قد تتأخر مدة طويلة في البت في المنافسة وقد وصلت في بعض الاحيان (من تجاربي الشخصية) سنتين ثم حين تعتمد الترسية يتم الضغط على المقاول بكل الوسائل المتوفرة لاستلام الموقع قبل توقيع العقد.. فيترتب على ذلك ضرر بالغ على المقاول من جوانب عديدة منها: أن الإدارة لا تكون في عجلة من امرها لتوقيع العقد.. ويتأخر إعداد المستخلصات الاولى بما في ذلك الدفعات المقدمة بحجة عدم توقيع العقد.. ويتأخر إصدار التأشيرات وغير ذلك كثير.. والواجب هو إلزام الإدارة بعدم تسليم الموقع الا بعد توقيع العقد. 7- أخذ مشروع النظام في المادة (85) منه بنظرية عمل السلطة، ومقتضاها استحقاق المتعاقد للتعويض في حال صدور أي أعمال أو قرارات من السلطات الادارية بالدولة تؤدي إلى ضرر بالمركز المالي للمتعاقد من خلال رفع أعبائه المالية عما كانت عليه عند التعاقد. ولكن هنالك ملاحظتان: - الأولى أن الفقرة (ب) من النص تتحدث عن جواز تعديل الأسعار في حال تعديل التعرفة الجمركية أو الرسوم أو الضرائب، وكان من باب أولى النص كذلك على حالة فرض أي رسوم او ضرائب مستحدثة. - أما الثانية (وإن كان محلها الأنسب اللائحة التنفيذية) من الضروري وضع آليات عملية وناجزة لتعديل الأسعار في حال الرسوم والضرائب التي تطرأ في أي وقت بعد تقديم العروض، لأن التأخير في ذلك مؤداه الضرر المحتوم على المتعاقد وهو في نهاية الامر تاجر يبتغي الربح وليس الخسارة، كما ينبغي تشجيعه ليقدم أفضل ما لديه لخدمة المرفق محل التعاقد. 8- بنود فسخ العقد لابد أن تكون عادلة ومتوازنة وأن تعطي كل ذي حق حقه.. فإن كان على الإدارة ضرر من الفسخ فلها الحق أن تحسم ما تراه من المبالغ من مستحقات المتعهد، أما إن كان الضرر واقعاً على المتعهد فإن بنود النظام لابد أن تكون بنفس الدقة والصراحة وأن تنص على تعويض المتعهد عن الأضرار وتوضع آلية في صلب النظام لاحتساب الضرر والتعويض وذلك على النحو الذي يضمن تناسب التعويض مع حجم الضرر. أما أن يشار إلى حق المتعهد بالتقدم للمحكمة ليطالب بالضرر ففي هذا ملاحظات من عدة أوجه منها: أ- أن نظر القضايا كما هو ملموس في محاكمنا قد يستغرق مدداً طويلة جداً. ب- انشغال بعض محامي الإدارات الحكومية لتعويض المقاولين عن اضرارهم.. فتجدهم يتغيبون عن الجلسات. أو عدم تقديم الردود والمستندات المطلوبة منهم. ج- معاناتنا من عدم توفر بعض الكوادر الهندسية والفنية، وعدم توفر الخبراء الفنيين بالعدد أو الكفاءة المطلوبة في المحاكم المختصة. د- لكل هذا فإن الاولى هو أن يشتمل النظام أو اللائحة على بنود دقيقة تحدد كيفية ومقدار التعويض.. فبما أن الحكومة تستوفي مبالغها وغراماتها دون اللجوء إلى المحكمة المختصة فمن العدل أن يستوفي المتعهد حقه دون الحاجة إلى اللجوء للمحكمة. 9 - علاوة على ما ذكر في الفقرة السابقة نرى أن هنالك قصوراً جوهرياً في نص المادة (95) من المشروع، فغاية ما هو متاح للمتعاقد في حال إخلال الجهة الحكومية بالتزاماتها هي المطالبة بالتعويض، والعدالة تقتضي أن يكون من حق المتعاقد التقدم بطلبات أخرى غير التعويض بحسب طبيعة إخلال الجهة الحكومية وأثره، فهناك من الإخلالات ما لا يمكن تداركه او معالجته بالتعويض فقط، فينبغي أن يتاح للمتعاقد المطالبة بإلزام الجهة الحكومية بالتنفيذ العيني للعقد (تنفيذ أي من التزاماتها التي امتنعت عن أو قصرت في تنفيذه)، وكذلك المطالبة بإصدار أوامر عاجلة كالأمر بإزالة عوائق تنفيذ العمل التي لا يد للمتعاقد فيها، أو اوامر المنع كمنع الجهة الحكومية من المسارعة إلى سحب العمل أو مصادرة الضمانات في ظل وجود نزاع جدي وجوهري بين الطرفين، بل ولا ضير حتى إذا نص صراحة على حق المتعاقد في المطالبة بالفسخ متى كان لذلك مقتضى حسبما تراه الجهة القضائية المختصة. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن اللائحة التنفيذية الحالية تشترط على المتعاقد الانتهاء من الأعمال وتسليمها حتى يتاح له اللجوء إلى اللجنة المختصة بالتعويضات، وهذا لعمري فيه ضرر على المتعاقد، لأن الضرر الواقع فعلاً يستوجب رفعه دون تباطؤ منعاً لتفاقمه (الضرر يزال)، كما أن الضرر وشيك الوقوع يستوجب دفعه دون تباطؤ منعاً لوقوعه (الضرر يدفع بقدر الإمكان)، والواقع أن التراخي في منح المتعاقد حقوقه في هذا السياق يسبب ضرراً بليغاً ليس فقط للمتعاقد وإنما ايضاً للمرفق العام محل العقد وذلك لما يترتب على ذلك من ضعف مؤثر في مقدرات المتعاقد. عليه من الضروري في تقديرنا أن يتم تدارك ذلك في ظل مشروع النظام المطروح. 10- تنص الفقرة (2) من المادة العاشرة على انطباق المبادئ الأساسية للنظام وأهدافه على الشركات التي تملك فيها الدولة 51% فأكثر. ونرى أن الأولى هو القول بانطباق النظام برمته على تلك الشركات لأن الالتزام التام بالمبادئ الاساسية والأهداف لا يتأتى إلا من خلال الالتزام بكل أحكام النظام دون تجزئة، والقول بغير ذلك قد يتيح للشركات الحكومية الفرصة لانتقاء الأحكام التي تحمي مصالحها دون الالتفات إلى مصالح المتعاقدين معها. وختاماً أسأل الله أن يكون فيما دونته هنا مساهمة ولو بسيطة في تصحيح النظام وتحقيق المصلحة العامة والله الموفق.