{ أوضح الشاعر والروائي حبيب محمود أن المثقف بات لعبة إعلامية تواصلية صرفة، وأنه ضعيف الرؤية مهزوز الموقف أمام القضايا الأكثر إلحاحاً، وبالتالي أصبح شكلاً من أشكال التلوّن والتعصّب والتفاعل الآني. وقال في حوار مع «الحياة» إن مأزق الرواية السعودية يكمن في أنها تكذب مرّتين، تكذب في تعاطيها مع الواقع بانفصالها عن محيط كاتبها. وتكذب فنّياً في بنائها وتقنياتها المتكلّفة، مشيراً إلى أن الرواية، بتقنياتها السردية والحوارية، هي الأقرب إلى إعمال العقل، كما أن الشعر هو الأقرب إلى إعمال القلب. إلى نص الحوار: روايتك «زمبوه» تعاطت، على صغرها، مع مواضيع عدة، مشكلة المرأة، العادات والتقاليد في مجتمع محافظ، كيف أمكنك التعاطي مع كل ذلك، وهل ساعدتك اللغة الشعرية التي أضفيتها على الرواية في ذلك؟ - ما فعلته هو أنني رصدتُ يوماً ريفياً من حياة شابٍّ «نخلاوي» تتقاطع حوله صراعات الواقع، صراع الإنسان مع الطبيعة، صراع المالك والمستأجر، صراع المرأة، صراع الضعفاء في ما بينهم، صراع الإنسان مع نفسه. وكلها صراعات يتجاذبها طرفا القوي والضعيف، الممكن والمحال. بذرتُ التفاصيل في ساعات ذلك اليوم، رديفةً مع كلّ نشاط يمارسه الشاب المريض، مستعيناً بذاكرة عشتُها بنفسي. أما لغة الرواية فهي ليست لغة «شعرية» بل لغة «شاعرية»، أو لنقل إنها لغة رومانسية أظنّها منسجمة مع الطبيعة الريفية. في «زمبوه» وجدتني بين النخيل والمياه وفي موسم الصرام، وفي حياة الناس الحقيقية. فبأية لغةٍ أتوسّل في تصوير هذه الجنة؟ متى يمكن للشاعر أن يتخلص من الشعر عندما يدلف إلى كتابة الرواية؟ - في نظري، ليس على الشاعر أن يتخلّص من الشعر أصلاً. عليه أن يكون طينته وماءه وشجره وطبيعة روحه. وحين يستعين بروحه «الشاعرة» في سرد الرواية وبناء حواراتها، فإن ذلك يلوّن لغته، ويبللها، ويهندس حدائقها وضفافها، ويغرس أشجار الجمال فيها. أظنّ أن من الميزة أن يوظف الروائيّ حسّه الشاعريّ في بناء الجملة، ورسم الصورة، وتهذيب حتى بُنية الصوت في تركيب العبارة. ما على الشاعر أن يتخلّص منه هو التصنع والتكلف، لا أداةً يمتلكه ويُجيد استعمالها. لماذا الرواية بدت النوع الأدبي الأنسب لفضح زيف المجتمعات وتعرية ازدواجيتها؟ - لا أميل إلى استخدام كلمة «فضح». دعينا نعتاض عنها ب«مواجهة». وإجابتي هي أن الرواية، بتقنياتها السردية والحوارية، هي الأقرب إلى إعمال العقل، كما أن الشعر هو الأقرب إلى إعمال القلب. العمل السردي عموماً مُخبرٌ، نابش، محاور، مواجِه على نحو أكثر شفّافية وكشفاً من الشعر. وحين تتحدّث بعقلك مستعيناً بقلبك فإنك تكون أمام الواقع وجهاً لوجه، وهنا لا مناص من التعاطي مع معطياته تعاطياً فنّياً، ومهمّتك هي إشراك المتلقّي معك في الرؤية والموقف، عبر التقنيات اللغوية التي تستعين بها. الرواية هي الأنسب لبسط ما يختزله الشعر في مقاطعه القصيرة المكثفة، السرد هو الأقدر على مواجهة اللامعقول بلغة معقولة، على العكس الذي يستخدم اللامعقول شكلاً ومحتوى. بدت السخرية ملمحاً واضحة في روايتك، هل السخرية هنا تكنيك في الرواية؟ - «زَمْبَوْه» ليست عملاً سردياً ميليودرامياً. هي تحوم حول مأساة. مع ذلك، ما كان عليّ أن أصنع منها قطعةً لغوية سوداء من الغلاف إلى الغلاف. وهذا يعني أن السخرية التي مرّرتُها، إنما هي جزءٌ من بُنية الواقع الذي تعاملتُ معه تعاملاً طبيعياً. في كلّ مأساة ثمة ما يبعث على السخرية، وعلى السارد أن يقتنص ذلك ويضعه في سياقه. كيف ترى المشهد الأدبي، وكيف تقيم المثقف ومواقفه من القضايا الأكثر إلحاحاً اليوم؟ - المشهد الأدبي مليء بالضجيج، وما أقلّ الحجيج. أما المثقف، فبات لعبة إعلامية تواصلية صرفة. المثقف، في زمننا، ضعيف الرؤية مهزوز الموقف أمام القضايا الأكثر إلحاحاً. المثقف اليوم بات شكلاً من أشكال التلوّن والتعصّب والتفاعل الآني. في رأيك ما هو مأزق الرواية في السعودية اليوم؟ - مأزق الرواية السعودية هو أنها تكذب مرّتين: تكذب في تعاطيها مع الواقع بانفصالها عن محيط كاتبها. وتكذب فنّياً في بنائها وتقنياتها المتكلّفة. بعض الأعمال أنفر من صفحاتها الأولى لأنني أشعر أنها مكتوبةٌ لإرضاء الآخر، أو لمغازلته، أو لتحاشي سُخطه، أو لاستثارة هرموناته. والإبداع في رأيي لا يُكتب بإملاء أحد خارج المبدع، لا يُفصّل على مقاس نصوص المسلسلات التلفزيونية التي لا علاقة لها بالناس. مأزق الرواية السعودية أنها جزءٌ لا يتجزّأ من المداراة الاجتماعية والسياسية.