ظن مصطفى يومها أن أبواب السماء ستظل مفتوحة، وأن طاقة القدر ستبقى محلولة وإن أيام الشقاء ولت وأدبرت، وأن الاضطرار للفرار من «الحكومة» صفحة وطويت، وأن التيارات وإن تعاركت، والتحالفات وإن تفسخت، والضحك على الذقون وإن انكشف، والتناحر على السلطة وإن توقف، والثورات وإن سكنت فإن تجارته الجديدة باقية إلى ما لا نهاية. لكن ما ظنه كان وهماً، وما اعتقده كان خطأ. فما هي إلا سنوات قليلة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، حتى انغلقت أبواب السماء، وتعقدت طاقة القدر، وعادت أيام الشقاء، واستعاد صولات الكر والفر وجولاتهما مع «الحكومة» وذلك بعد ما تبخرت التيارات والتحالفات، وفرض الشعب على الذقون حظراً وجودياً وقمعاً اجتماعياً، واستقرت السلطة في مكان ويد من ارتضته الغالبية بعد أربع سنوات صعاب عجاف حولت الكوفية العربية والحقيبة الإسعافية والهيئة الثورية إلى كوفية صوفية لزوم برد الشتاء، وحقيبة مدرسية أو ربما جامعية وهيئة أقرب ما تكون إلى طبيعة المرحلة، حيث لا لون بعينه أو طعم دون غيره أو نكهة مميزة. تميزت أيام الثورة والأشهر التي تلتها بفورة تجارية في الملابس «الثورية»، أو فلنقل «الأيديولوجية»، وربما كانت «بروباغاندية». ويقول آخرون إنها كانت طفيلية انتشرت انتشار النار في الهشيم. وعلى رغم أن مصطفى أحد أوائل من دشنوا ال «هوت كوتيور» الثوري في ميدان التحرير، إلا أنه يحاول جاهداً، وعلى رغم عدم منطقية الجهد، أن يفرغ تجارته من مضمونها الفكري ويخرج بها إلى الحيز التجاري المنزَّه عن أي استقطاب سياسي أو موقف ثوري أو متأسلم، أو حتى تجييش وطني. صحيح إن التاريخ سيشهد أن مصطفى باع كل ما يتعلق بالحدث الثوري في مصر، بدءاً بالكوفية العربية وتي شيرت «ارفع رأسك فوق أنت مصري»، مروراً بتي شيرت السيفين الواعدين ب «حمل الخير لمصر» ومعها تي شيرت التوحيد حيث الشهادتان في الواجهة وصورة المرشح الرئاسي حازم صلاح أبو إسماعيل في الخلف، وانتهاء بتي شيرت «السيسي رئيسي» و «تحيا مصر». وبلغة ديبلوماسية بليغة وإدراك رأسمالي عميق، قال: «أنا أنأى بنفسي من التحيز لأي فصيل سياسي. أنا كنت أبيع بضاعة الثورة فقط لا غير. وليتها استمرت. فقد انكشفت حكاية الربيع وأيقن كثيرون أنها خدعة ومؤامرة وأشياء من هذا القبيل، فلم تعد أزياء الثورة رائجة. وكي يزيد الطين بلة، فقد ولت كذلك أيام الحرية والعدالة الاجتماعية حيث كنا نعرض بضاعتنا على أرصفة ميدان التحرير من أجل الثوار من دون أن تجرؤ الحكومة على أن تقول لنا تلت التلاتة كام». وعلى رغم إن «الحكومة» (الشرطة) تحاول بين الحين والآخر أن تقول للباعة الجوالين في وسط القاهرة تلت التلاتة كام بين الحين والآخر، حيث حملات دورية لإزالة الإشغالات الفوضوية، إلا أن التجارة الثورية المجهضة تبقى شاهد عيان على أزياء شبابية ثورية ولت وأدبرت وتحولت من إشعار يحمله صاحبها وصاحبتها بحثاً عن تقدير شعبي وفخر وطني وزهو شبابي، إلى ركن منسي في خزانة الملابس يثير نوستالجيا الماضي القريب حيناً وفوبيا حب الثورة حيناً وقلق «ماما» من أن تداهم الشرطة البيت فتجد أدلة إدانة قد تزج بالابن الطائش في اتهام بائن بمحاولة إثارة الفوضى أو البلبلة أو الزعزعة أو كل ما سبق. كل من ارتدى الكوفية العربية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً برموز الشعلة الأولى لثورة يناير 2011 يعرف إنها كانت مرحلة ومضت. بعضهم ينظر بحسرة إلى فورة ثورية ومشاعر الميدان الجماعية التي تبخرت في هواء ركوب الإسلاميين الموجة، والبعض الآخر نسي مكانها بعد ما عاد إلى أزيائه العادية غير المسيسة المنزوعة الثورية حيث تي شيرت بكتابات إنكليزية وبنطلون جينز لا يعرف الاستقطاب ولا يعترف بتراوح الأيديولوجيات. لكن تظل هناك استثناءات، فقواعد الجماعة التي ما زالت تتعلق ببعض الأمل في عودة «الشرعية والشريعة» وإعادة الدكتور محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة والمضي قدماً في مشروع الخلافة، تتشبث بها أحياناً في مسيراتهم الليلية حيث فعالياتهم الأسبوعية في الشوارع الجانبية في الأحياء المعروف عنها تواجد تكتلات القوى الإسلامية. وبين قوى إسلامية شبابية تحاول جاهدة التعلق بأزياء الثورة، وأخرى ليبرالية لم تعد تتمسك ب»هوت كوتيور» الثورة، من تي شيرتات منددة بالنظام، وأخرى داعية إلى التغيير، وثالثة لسان حال مآل الربيع، حيث «مش فاهم حاجة خالص» مطبوعة على الصدر، أو «عبوكو كلكو» مرسومة على الظهر، يبقى مصطفى -بائع أزياء الثورة سابقاً السارح بعربة ساعات مضروبة وأطر نظارات مهربة- شاهد عيان على أزياء مؤدلجة وأخرى مسيسة وثالثة تحولت من بضاعة «تأخذك إلى الجنة» إلى «بضاعة تضمن لك خمس سنوات سجن مع الشغل» باعتبارها أدلة إدانة. كم هائل من تي شيرتات خضراء تحمل وعد الإخوان بحمل الخير لمصر، وأخرى سوداء تنذر ب «سنحيا كراماً» لصاحبها ومؤسسها المحبوس حالياً حازم أبو إسماعيل، وثالثة صفراء تحمل أصابع أردوغان الأربع، أن تكون إما معرضة للتلف في مخازن أو تم إعدامها خوفاً من المساءلة. أما تي شيرت «السيسي» فيظل صالحاً للاستخدام حتى إشعار آخر.