المطر هو اختبار صغير جداً، لنقل اختبار تجريبي يكشف عن رسوبنا بامتياز في مادة تسمى «حب الوطن والإخلاص له»، كما أن النتائج التي علقت على جدران كل الطرقات والأنفاق والبيوت الغارقة بالمياه وانهيارات الجسور تكشف عن أن التلاميذ النجباء ليسوا إلا لصوصاً صغاراً نجحوا على الورق وفشلوا في أبسط مقررات الحياة، بأن يعيش إنسان هذه البلاد المباركة بثروات طائلة مصدرها مخزون الله في باطن أراضيها بشرف وأمن واستقرار. الأمطار الغزيرة كما نراها، وقد لا ترى كذلك في مناطق أخرى أقل منا سعة وتطوراً، وضعت أصابعها على مكامن الخلل كما وضعتها على حقيقة مرة أن خونة الوطن لن يستشعروا هذا الأذى الذي لحق به ما دامت الصفقات المعطوبة بالرشوة والسرقة تضخ في حساباتهم الملايين. قبل أيام وصلتني صورة معبرة جداً لمسؤول طموح جداً ومحترم جداً لا نشك البتة في إخلاصه لوطنه، وكان لبصماته أثر واضح على تطور مدينة الرياض، يقول في تصريح له لمجلة الحوادث اللبنانية 1978 التصميمات النهائية لمدينة الرياض ستجعلها تضاهي كبريات مدن العالم عام 1985، لم يكن يكذب، كما لم يكن يطمح إلى ما هو أبعد من المستحيل، لأن ما بين يديه من مشاريع ضخت من أجلها ملايين الريالات كفيلة بإنجاز ما كان يرمي إليه، فهو يرى المستقبل الواعد للمدينة على الورق، ويمنح جهده ومتابعته مع من اختصهم بمعاونته على تحقيقها على أرض الواقع، فكيف اقتحمت الفئران القارضة هذه المخططات والمشاريع حتى أعطبتها، لنكتشف أننا في العام 2013، لا نبرح مكاننا في ما يتعلق بالبنية التحتية وعلى أخصها خطوط تصريف السيول التي فضحت واجهات المدن الزجاجية، لم تغب كارثة سيول مدينة جده عن أذهاننا، ولا يجب أن يطويها النسيان، فهي وثيقة قدرية لعمق الفساد الضارب جذوره في عمق الإدارة، حتى وصل إلى القضاء، ونحن نعلم بأن القضاء هو آخر الحصون التي متى ما هوى تداعت له قيمة الإنسان وكرامته. حتى الآن أجهل الروح العدوانية والأنانية المتسربة لبعض المسؤولين المتنفذين على مشاريع الدولة ذات العلاقة بمصائر المواطن، فمنذ اليوم الأول لجلوسهم على كرسي المسؤولية، كأنهم ينضون عنهم أثواب الصدق والأمانة، ويستبدلونها بأثواب الجشع، لذلك تتفتق أذهانهم عن المشاريع تلو المشاريع، وشعارهم المعلق على ألسنتهم «الشرط أربعون، لنا عشرون ولكم عشرون»، والنتيجة تعطل كل المشاريع، وإن أنجزت ففي غير أوقاتها مع كثرة الخلل الذي يعتريها، لذلك لن نستغرب سقوط جسور وتهدم بنايات وغرق طرق، ليس هذا فحسب، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، ولا يسعني هنا أن أعيد عليكم كل ما تناقلته أو بمعنى آخر فضحته وسائل الإعلام عبر برامجها الجريئة من موجة فساد ضربت القضاء والتعليم والصحة والإسكان وكثير من شركات القطاع العام، حتى إنك لا تكاد تفتح مع الآخر فكرة مشروع ما إلا ويبادرك بقوله: «لا تنس نسبة المدير العام»، لتضاف إلى قيمة المشروع مضاعفة، وعلى الأخير التغاضي عن كل الفوادح التي ستفسد روعة المشروع على الورق. ليست السيول ما نخافه، يجب أن نبدأ تجريد أنفسنا من حال الطمأنينة والاسترخاء عند التعاطي مع كل متعلقات الوطن، فإن كنا قد تجردنا من الخوف من الله منه سلفاً فعلينا أن نخاف من عواقب أعمالنا، ليست الفضيحة التي ستلحق بنا في ما لو أطلق العنان ل«لنزاهة» باقتحام الملفات المغلقة مذيلة بأسماء المفسدين والفاسدين، وكشف الطابق المستور الغارق بوحل الفساد، بل مما هو أبعد من ذلك، لنتصور في ما لو مسنا شيء من الكوارث الطبيعية كالأعاصير والزلازل التي تنذر بشر مستطير، فماذا سيكون عليه الحال، فأخبار المركز الوطني لرصد الزلازل والبراكين في السعودية ليست بسر، إذ أعلن في وقت سابق أكثر من 9 آلاف هزة زلزالية بالمنطقة الشرقية خلال 4 أعوام، 8 آلاف منها بقوة 3 درجات على مقياس ريختر، ناهيك عن الرمال المتحركة التي تحيط بنا من كل جانب، ألا يدعونا هذا إلى افتراض كل التوقعات الممكنة الحدوث في وقت ما؟ لنتصور مصير هذه المشاريع المغلفة بطبقة من «السولوفان» كيف سيكون حالها، وهي التي تهاوت من سيول هطلت سويعات قليلة، وأحدثت بشعاً عشوائياً وفوضى عارمة في مدننا، ماذا سنقول حينما تسقط المدن فوق رؤوس ساكنيها؟ هل سيكفي الندم على ما فرطنا في جنب الوطن واستحللنا أمواله من أجل مضغة كاسدة لا تصيبنا إلا بمزيد من التخمة وأمراض الضغط والسكري؟ ولا أقصد من هذا التخويف أو الترهيب بل استشراف ما قد يحدث على حين غرة. وأنا أسأل: ما ضر هؤلاء الفاسدين لو أنهم أوجدوا لهم صيغة أخرى للتكسب من مشاريع الوطن، بعيداً عن الإخلال بمواصفاتها وجودة تنفيذها، فلربما سنجد لهم صياغة مقبولة لتبرير كل ما يقومون به على غرار «كل حتى تشبع ولكن ليس على حساب الجودة والمتانة» بيد أن هذا على ما يبدو جاء متأخراً، إذ «سبق السيف العذل». نحن اليوم بحاجة ماسة إلى ترميم علاقتنا بالوطن، من خلال إحلال مفاهيم جديدة ومختلفة لا تقوم على المواعظ وأخلاق مطاطية لا يصادق عليها سلوك الناس، بقدر ما تنهض على قيم يحميها النظام والقانون، القيم التي تبدأ من الإنسان نفسه، وتجيب على أهم سؤال وجودي، المتمثل في «من أنا؟ وما الوطن؟»، ومحاولة إيجاد علاقة وطيدة، ليس من خلال الأغاني التمجيدية والأناشيد الوطنية بل من خلال صياغة عقيدة متينة تحت مظلة قانون صارم، عندها ستعود كل الفئران القارضة في جسد وطننا إلى مخابئها بلا رجعة. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] @almoziani