حلم عودة «الحكومة» داعب مخيلتهم، وخاطب ضمائرهم، وطرق أبواب كوارثهم. في البدء، اشترطوا عودتها بقواعدهم ومقاييسهم ومعاييرهم، ثم أخذت القواعد تتناقص والمقاييس تتضاءل والمعايير تتساقط، إلى أن كادت تلتصق بأرض الواقع، فعقب الثورة وما شهدته من شطح في الآمال وشطط في التوقعات، التزم المصريون قواعد المرور يوماً أو بعض يوم، وراعوا حق الطريق لأسبوع أو أسبوعين. ومع تبدد آمال التغيير الآني للبلاد وانكشاف آثار التجريف التاريخي للعباد، لم يكتف المصريون بالعودة أدراجهم إلى سابق عهد عشق كسر القواعد المرورية والوله باقتراف موبقات تجاهل إشارات المرور والسير عكس الاتجاه واجتياز السرعة المقررة، بل اتخذوا قراراً جماعياً وأصدروا حكماً شعبياً بإعلاء كلمة الفوضى وتعميم مبدأ «البقاء للأقوى» في كل طريق من طرقات المحروسة. طرقات المحروسة شهدت على مدار السنوات الأربع الماضية تردياً لأوضاع مرورية كانت متردية، وانفلاتاً لسلوكيات قادة سيارات كانت منفلتة، وتقهقراً لحقوق مارة كانت متقهقرة، وتعدياً على أرصفة كانت هدفاً للتعديات، وانتشاراً لمركبات إما عاف عليها الزمان أو لم تطرأ على بال الزمان أصلاً . وبدل الاكتفاء باللحاق بالدول العشر الأخطر من حيث السير على الطرقات بنسب الوفيات الأعلى وأعداد الإعاقات الأكبر، أو كلفة الحوادث الباهظة الناجمة عن نزيف الأسفلت، صعدت المحروسة بسرعة الصاروخ لتشهد قتيلاً وأربعة مصابين كل ساعة، وخسرت ثلاثة في المئة من دخلها القومي بسبب جنون القيادة، وأُدرِج خبل القيادة باعتباره عنصراً للطرد السياحي في الأدلة السياحية والبرامج الترفيهية والفقرات التلفزيونية. شاشة التلفزيون نقلت إلى كل بيت في مصر تفحم تلاميذ البحيرة، ومن قبله مصرع طالبات سوهاج، وقبلهم وبعدهم وأثنائهم خبل قيادي وسفه مروري وعته تنظيمي جعل من شوارع مصر مرتعاً للخارجين على القانون، وملعباً لهواة المتعة والإثارة، وملهاة للمضغوطين والمقهورين والباحثين عن متنفس لنيران الغضب الاجتماعي وشعلات الحنق الاقتصادي وجحيم الاستقطاب السياسي ولظى المؤامرات والعمالات والخيانات والأجندات، الأجنبي منها والمحلي. ولأن هذا النقل لم يكن مقتصراً على الشاشات أو حكراً على الفقرات أو مقصوراً على الإعلام، بل واقعاً مريراً وتفصيلاً قبيحاً يعانيه الجميع من دون استثناء يومياً وعلى مدار الساعة، فقد استُنفِرت المطالبات واستُفِزت المظلوميات وتوحد الجميع في مطلب شعبي جهوري واحد عقب الكوارث المرورية الأخيرة التي أودت بحياة الطلاب والطالبات وصاح الكل: «فين الحكومة؟!». «الحكومة» التي يطالب بها القاصي والداني، والقاعد والماشي، وصاحب السيارة الخاصة والمنحشر في الباص والمتعلق بالتوك توك، تحاول مرة جاهدة ومرات على استحياء أن تعاود الظهور وتستأنف الجهود، وذلك عبر لجنة مرورية هنا، أو مكمن مفاجئ هناك، أو حملة تفتيشية هنا وهناك بحثاً عن متنصل من حزام الأمان أو متصل بالأصدقاء والصديقات خلال القيادة على الطريق. «الحكومة» العائدة كلما تيسرت ظروفها أو فاض بعض وقتها تقابل بكثير من الترحاب وبعض من العتاب، وتعبير عن طول اشتياق لعودة قوات المرور علّها تضبط الحال المائل وتعدل الوضع الجائر، لا سيما بعد الكارثتين المروريتين الأخيرتين. ويجوز القول إن الأحاديث الشعبية التي تدور في الكواليس المصرية تعكس عدم رضا عن الحضور المروري المتقطع في شوارع المحروسة. إلا أن قدرة المصريين الفطرية على تشجيع قوات الأمن عموماً والمرور خصوصاً على العودة إلى الشارع، جعلتهم يتغاضون عن تقصير هنا أو غياب هناك. وهناك في شارع من شوارع وسط القاهرة دار حديث يضحك لفرط بليته. فقد استوقف ضابط المرور سيارة أجرة قادمة عكس الاتجاه، ما دفع بسائقها إلى التحجج بازدحام الشارع الموازي، والتعلق بحجة اللجنة المعرقلة للطريق، والأمن المتعسف في التفتيش، والرزق المتعثر في الكسب. وحين أصر الضابط على تحرير مخالفة، تجمهر المارة مطالبين الضابط بالسماح ومناشدين إياه بالعفو، ومجاهرين باستقواء «الحكومة» على الغلابة بينما الشوارع غابة. وبالطبع رد الضابط مستنكراً وسائلاً إياهم عن شكل عودة «الحكومة» التي يتحدث المواطنون عنها ليلاً نهاراً، فسكت الجميع، وإن استمر بعضهم في الهمهمة ولم يتوقف آخرون عن الحسبنة، متوقعين أن يذهب السائق المسكين «في حيص بيص». ويبقى «الحيص بيص» الحقيقي هو ذلك المتوقع في ضوء صدور التعديلات الجديدة على ترسانة قوانين المرور الموجودة نظرياً المتوفاة فعلياً، من تغليظ للعقوبات، وتشديد للمخالفات، وإلغاء فوري للترخيصات، وعقوبات مشددة بالسجن والغرامات، إلى قائمة طويلة من التصعيبات والتغليظات. فضابط المرور الباحث عن حزام الأمان ورخصة القيادة والهاتف المحمول لم يبحث يوماً عن قيادة خطرة، وقلما شغل باله بلوحة أرقام منزوعة أو برقم سقط سهواً أو بزجاج تسوّد عمداً. كما أنه لم يجر العرف من قبل أن يعاقَب من يترك حارته مفضلاً حارة زميله، إذ إن ثقافة الالتزام بالسير في حارات محددة لم يسمع عنها أحد. كذلك الحال بالنسبة إلى السير البطيء على يسار الطريق، أو توقيف السيارة للتحميل والإنزال على منزل الجسر أو عند ملف رئيس وغيرها الكثير من المحرمات المرورية دولياً وغير المسموع عنها محلياً. فداحة غياب ثقافة المرور وانقشاع آداب الطريق لم تلفت انتباه جمعيات حقوقية أعياها البحث في حقوق مهدورة، وشخصيات سياسية أنهكها انتظار انتخابات برلمانية مأمولة، فشغلت وقتها وملأت فراغها بانتقاد «عسكرة» المرور و «دكترة» (من الديكتاتورية) أحكامه، لا سيما بعدما طالب الرئيس عبدالفتاح السيسي بدرس إمكان إقامة دوائر قضائية خاصة بالمرور، مع تطبيق قوانين المرور بكل صرامة. وهنا «عادت ريما إلى عادتها القديمة»، فهلل المواطنون للقرارات الجديدة، وندد الحقوقيون بالتغليظات الحديثة، وجال السياسيون على القنوات يدلون بدلوهم في شأن عودة «الحكومة»، وما لها وما عليها!