استمتعت الجمعة الماضي بخطبة الحرم المكي للشيخ صالح بن حميد عن ثقافة الاستهلاك في مجتمعاتنا، وثقافة المعي الواحد والسبعة أمعاء، استناداً لما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»، وللحديث سبب ورود ذكره المحدثون بأسانيدهم، وكانت خطبة موفقة نحتاجها في كل وقت ولاسيما أوقات الإجازة. ولا يشك أحد في أن الفرح أمر فطري، جُبِلَتْ عليه النفس، فما من إنسان إلا وهو يفرح ويحزن كما قال علماء النفس، وسبقهم السلف إلى هذا المعنى بعبارة أكمل نُقِلت عن ابن عباس، ونسبها بعضهم إلى تلميذه عكرمة، جاء فيها: «ليس من أحدٍ إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبتَه صبراً، وغنيمتَه شكراً». وتغمر أفراد المجتمع في هذه الأيام فرحة الزواج والنجاح وغيرهما من المناسبات، وستقبل الأعياد، وتكثر التبريكات والمناسبات، إلا أن المراقب لأحوال المجتمع يقف على أمر مزعج، وهي ثقافة التكاثر والبذخ والسفر؛ حتى أصبح الكثير ينفق أموالاً طائلة على كماليات في المناسبات، وقد تصل كلفة تجهيز قاعة الزواج في بعض الأحيان إلى ما يزيد على 5 ملايين من أجل صف كراسي محفوفة بطاولات، وكوشة على أحدث طراز وأغربه، هذا غير تكاليف الضيافة المبتكرة التي يحلو لبعض النسوة مدحها ب«شيء مستنكر» أي: لم يسبق إليه، وهو أيضاً منكر؛ لأن الله سبحانه ذكر أن الهلاك مصاحب للترف القائد للفسق (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً). وأخبر أن المبذرين إخوان الشياطين (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورا)، وأنه لا يحب المسرفين (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وعلينا أن نطرح تساؤلاً يعد المنطلق الأول لعلاج مثل هذا الداء الذي بدأ في مجتمعنا، من المسؤول عن هذا كله؟ هل وسائل الإعلام أسهمت في تشكيل الخلفية الثقافية لمثل هذا الاستهلاك؟ أم المادة مع الفراغ القاتل الذي تعيشه الفتيات؟ أم هذه العوامل مجتمعة مع عوامل أخرى أفرزت مثل هذه الترهات؟ لا بد من أن يعي المجتمع أن التعبير عن الفرح مطلب إنساني بل وشرعي أيضاً، وفي كتاب الله: (قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، إلا أن الفرح لا بد من أن يكون في ما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وهذا جماع الاعتدال وعينُه، وإلا خرج من نطاق الممدوح إلى المذموم، وفي قصة قارون أنموذج فرح المترفين الذي كان عاقبته البوار والخسارة، وتأمل قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». إن موعظة القوم لقارون كانت معتدلةً متزنة، فإنه لم يُنْهَ عن الفرح المعتدل، الذي لا يُنسي الشكر، وإنما وُجّه النهي إلى الفرح المبالغ فيه، الذي يُفضي إلى الفساد والبطر، وهو ما عبّر عنه المفسرون بعبارات متنوعة. وهذا المعنى ينتظم مع التوجه العام للقرآن في حديثه عن الفرح، حين لم يذم القرآن الفرح لذاته، وإنما لمتعلقه، كما هو الشأن في قصة قارون، فليت الجيل يفهم معاني القصة القرآنية وغاياتها، وعاقبة من هم على شاكلة قارون. ما أجمل أن نعبّر عن أفراحنا في حدود الشرع والعقل. * داعية، وأكاديمية سعودية. [email protected]