شهدت باريس اسبوع تشكيلات الموضة الراقية للموسم الصيفي المقبل، وتميز الحدث بمفاجآت عدة انتظرها الحضور بحماس كبير بسبب التغيرات الطارئة على الروتين السائد منذ سنوات وسنوات، باستثناءات قليلة، في ميدان الازياء النسائية الفاخرة. وكانت أولى المفاجآت دخول المبتكر جان بول غوتييه المتخصص في تصميم الموضة الجاهزة، الى دائرة الدور الراقية وتقديمه تشكيلة اثارت الدهشة والاعجاب في آن وان كانت تلقت الكثير من الانتقادات السلبية من جانب بعض اجهزة الاعلام. فمن المعروف عن غوتييه انه يميل الى الاستفزاز، وكم من مرة قدم في تشكيلاته الجاهزة موديلات غريبة أقرب الى روح الاستعراض مما هي الى صلب الاناقة القابلة للارتداء. ولكن المبتكر في هذه المرة أراد ان يثبت موهبته الفعلية وقدرته على رسم وتنفيذ ما يليق بسمعة باريس في مجال الموضة الراقية، فراح يستخدم الدانتيل والتول والحرير والزخرفة والتطريز باسلوب فني ممتع للعين ومرن في الارتداء، الا انه لم يقدر على التخلي عن روحه الفكاهية فلجأ الى طريقة طريفة في اخراج عرضه مستخدماً عارضات غير مألوفات من حيث الشكل والعمر، ومقدماً بعض موديلاته النسائية فوق اجسام رجال عبروا فوق المسرح وأثاروا مرح الحضور ودهشته. بين المفاجآت الاخرى لمهرجان الأناقة الراقية في باريس لجوء دار كريستيان ديور الى المبتكر البريطاني جون غاليانو المعروف ايضاً بأسلوبه الفضائحي، لتولي خلافة المعتزل جيانفرانكو فيريه مما اثار ايضاً القيل والقال حول مدى عثور زبونة ديور التقليدية على ما قد يلائم ذوقها في تصاميم "البهلوان" غاليانو كما يسميه باكو رابان. ولكن "البهلوان" كان تلقى تعليمات صارمة من ادارة كريستيان ديور وحصل على حق الابتكار للدار بعد خضوعه لشروط محددة مما جعله يقدم تشكيلة تمزج بمهارة فائقة بين كلاسيكية الدار وحداثة عقليته، ويمكن الكتابة بأن النتيجة النهائية رائعة من حيث الرسم ونوعية الاقمشة وفن استخدامها ودمجها بالتطريز الرفيع وباستخدام مجموعة من الألوان الجذابة الصالحة تماماً للصيف. واستخدم غاليانو خمسين عارضة لتقديم خمسين موديلاً وتقمصت كل واحدة دوراً محدداً اخرجه لها المبتكر محولا عرضه الى شبه مسرحية أو باليه فوق المسرح. ولجأت دار جيفنتشي العريقة الى البريطاني الكسندر ماكوين لتصميم تشكيلتها فضاعت في متاهات الاسلوب الاغريقي الغريب مسببة خيبة أمل الحضور وبالتالي زبونات الدار المحبات للكلاسيكية على طريقة جيفنتشي القديمة والمعروفة بمستواها الرفيع. ومن ناحيته قدم تييري موغلر الداخل ايضاً للمرة الاولى الى دائرة عمالقة الموضة الراقية، تشكيلة مبنية حول الحشرات فهو تخيل المرأة ذبابة ونحلة وعنكبوت وفراشة ورسم موديلاته مستخدماً الجلد الممزوج بالريش والحرير في بعض الاحيان وتوصل الى نتيجة محزنة يصعب ان تفتح شهية اي امرأة على اقتناء هذه الموديلات أو ان تفكر في ارتدائها الا في حالة ترددها الى حفلة تنكرية. من جهتها قدمت دور شانيل ولوي فيرو وأونغارو موديلات كلاسيكية بحتة يمكن وصفها بعودة الى الحكمة والعقل بعد فترة من الجنون تميزت بها المواسم القليلة الفائتة خصوصاً عند شانيل حيث كان المبتكر كارل لاغرفيلد خاض تجارب عدة شبه جنونية ليغير صورة الدار ويزيدها "حداثة" الا انه فضل العودة نظراً للأزمة الراهنة الى الشيء الذي صنع سمعة شانيل في الاساس وهو "التايور" الكلاسيكي والفساتين البسيطة والمشغولة في آن بألف تفصيل وتفصيل. واضطرت دار جان لوي شيرير الى الغاء عرضها التقليدي في احدى القاعات الضخمة في مقر اللوفر لتقدمه في صالون صغير في داخل مقرها الرئيسي وذلك لأسباب مادية عائدة الى الأزمة التي تعاني منها هذه الدار منذ مغادرة صاحبها الاصلي لها ولجوئها الى مبتكرين مختلفين للحل مكانه من دون فائدة. ورسم التشكيلة برنار بيريس وهو لم يبذل جهداً جباراً علماً ان كل الفساتين المقدمة اتصفت باللون الأبيض وبتفصيل شبه موح باستثناء نبرات طفيفة مختلفة هنا وهناك. ولا يزال إيف سان لوران استاذ الموضة لكونه يقدم تقريباً التشكيلة نفسها منذ ثلاثين سنة ويحوز في كل مرة على النجاح نفسه والاعجاب ذاته ويكسب زبوناته القديمات مما يجعل موديلاته تنتقل من جيل الى آخر وتبدو حديثة بفضل تغييره بعض التفاصيل الصغيرة في كل مرة، فهو بلا شك عبقري عصره في ميدان الاناقة الباريسية. ولجأ كريستيان لاكروا مثل عادته الى الالوان الزاهية النابعة من حوض المتوسط ومن حب المبتكر للجنوب وأهله وطباعهم، وهو قدم مجموعة من الموديلات تلمع بتفاصيلها الدقيقة والمشغولة بدقة فائقة تضع صاحبها في مقدمة المبتكرين الباريسيين الكبار. ويتحسن مستوى دار لوكوانيه هيمان سنة بعد سنة، وهي تأسست منذ عشر سنوات وعرفت كيف تعبر العواصف والازمات وتستمر في مشوارها ببطء وتمعن ولا بد لها من ان تصل الى مرتبة عالية في المستقبل القريب اذا حافظت على حرصها الشديد الخاص بتفاصيل رسم وتنفيذ كل موديل. وجاءت تشكيلة نينا ريتشي زاهية صيفية مفرحة أسوة بمجموعة ار تورانت علماً ان هذه الاخيرة اعتمدت الموديلات القصيرة جداً والانسامبلات اللائقة بالتنزه امام البحر وبالسهرات الصيفية البحتة ايضاً امام البحر لما هي عليه من مرونة وبساطة وبهجة في الألوان. وان كان الصيف يوحي بالزي الخفيف عامة، فقد اضاف جياني فرساتشي اليه نبرة باردة تلفت الانتباه وتثير الفضول فقدم موديلاته الملونة المرنة والقريبة الى الجسد فوق عارضات ارتدين المكياج الأبيض الشاحب وبدين قاسيات وباردات الى أبعد حد فوق المسرح. فالخفة هنا لا تعني ان المزاح مسموح بل على العكس كان من الممكن تخيل يافطة فوق كل عارضة تحمل عبارة "ممنوع الاقتراب أو التصوير" حال المباني الرسمية الامنية. وانتهز اوليفييه لابيدوس مناسبة زواجه في نهاية شهر كانون الثاني يناير 1997 من اللبنانية يارا واكيم ليطلب منها ارتداء فستان عرسها والعبور به فوق المسرح في ختام تشكيلته، مما اثار اعجاب وتصفيق الحضور خصوصاً بفضل جمال العروس والفستان معاً. وحضرت سارة فيرغسون دوقة يورك العدد الاكبر من العروض بسبب تحولها الى مندوبة رسمية لمجلة "باري ماتش" كما حضرت كاترين دونوف وجان مورو ووزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ والحالي فيليب دوست بلازي وماريزا برنسون والسيدة شيراك قرينة رئيس الجمهورية جاك شيراك والعديد من النجوم وافراد العائلات الارستقراطية والاميرية من مختلف بلدان العالم. وتبدو الاناقة الباريسية في حالة من التطور الحاد مع اقتراب القرن الواحد والعشرين، ودل الحدث في هذه المرة على نوع من الميلاد الجديد للموضة الراقية بعدما سمعنا مرات ومرات انها على وشك لفظ انفاسها الاخيرة طوال العامين الفائتين