"من يموتون يصنعون حيلة خبيثة نحو الأحياء: يتوارون تاركين لهؤلاء مهمة تفسير فكرهم، اي ان يتجادلوا حول ما قالوه، وما كان ممكناً ان يقولوه، بل وحول ما لم يقولوه ابداً". هكذا يكتب عبد الفتاح كيليطو في احد فصول كتابه "لسان آدم" الذي عربه عبد الكبير الشرقاوي وصدر حديثاً عن "دار توبقال" المغربية، وهو في الأصل سلسلة محاضرات ألقاها في "الكوليج دو فرانس" مطلع العام 1990. "آنئذ - يتابع كيليطو - ينبثق حلم عنيد بقدر ما هو مستحيل التحقيق، حلم ان يسأل المرء بنفسه أناس الماضي، مباشرة ومن دون وسيط. مرة، مرة واحدة، يلتقي بهم، ويستشيرهم عن معنى اقوالهم، بل، احياناً، ليستفسرهم إن كانوا حقاً قالوا تلك الاقوال. يكفي أن ينطقوا حتى تجد حلها المسائل المتنازع فيها، وتصحح اخطاء الفهم وينقشع الايهام. سيرضى كل الناس امام عظمة الحقيقة، ولا يعود اي اعتراض ممكناً". في العجالة المشار اليها يتعرض الباحث المغربي المعروف لمسألة الحوار مع الموتى، ويتناول "رسالة الغفران" للمعري، من زاوية تبين علاقة هذا المؤلف، المباشرة او غير المباشرة مع الشعر والنسيان. ذلك ان كيليطو يقترح علينا هنا رحلة في النصوص الكلاسيكية العربية بحثاً عن "اصل اللغة الذي لا ينفصل عن اصل الشعر". واذا به ينطلق من "نصوص هامشية لا يأخذها احد مأخذ الجد... هي مخزن لبضائع عتيقة"، نصوص استوقفته خلال قراءته لمؤلفات عربية كلاسيكية، جذبته وحيرته، وراح يغوص فيها بحثاً عن "قصيدة قديمة... أقدم قصيدة في العالم"... واقفاً في مشروعه النظري عند تخوم فقه اللغة والتاريخ، الفلسفة وعلم الكلام. كتاب كيليطو - بتعبير الناشر - "بحث في زمن الاوائل وحقب البدء". ان في الثقافة العربية القديمة نصوصاً تهجس بسؤال البدايات. ما اللسان الاول؟ والشعر الاول؟ والقصيدة الاولى؟ من خلال هذه الاسئلة يكشف المؤلف عن انساق الثقافة العربية القديمة، وعن اطارها الذهني. "نتساءل عن لسان آدم، ولكن اي لسان؟ او اللغة ام الجارحة؟ عن اللسان واسطة للتواصل داخل فئة اجتماعية، ام عن اللسان الذي تذوق الثمرة المحرمة؟". والالتباس اصيل، يرقى بنا، في كل الاحوال، الى شجرة المعرفة. اما القصيدة الاصلية - كما الخطيئة الاصلية - ف "مرتبطة الفقدان، والغياب والموت... القصيدة الاولى تحكي التبدل والخراب، ما عادت حدود العالم واضحة، ويزداد النظر حيرة بقدر ما تغطي الارض سحابة من غبار...".