مرت قبل أيام الذكرى العشرون لوفاة الروائي العراقي غائب طعمة فرمان 1927-1990 الذي شغل بالحياة العراقية من منفاه في موسكو مدة طويلة، وترك مدونة سردية كبيرة جعل مدارها القاع الاجتماعي العراقي وتناقضاته الطبقية والدينية. عاش فرمان تجربة المنفى بدلالتها الثقافية، فكلما نأت به السبل عن وطنه استعاده بشفافية عالية ممزوجة بالحنين والإحساس بالشقاء، فالمنفى ليس بقعة غريبة فحسب، إنما هو مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء. ولطالما وقع تعارض بين المنفيّ والمكان الذي رُحّل/ ارتحل إليه، فالمنفيّ منْ اقتلع من المكان الذي ولد فيه، لسبب ما، وأخفق في مدّ جسور الاندماج مع المكان الذي أصبح فيه، فحياته متوترة، ومصيره ملتبس، فهو ينطوي على ذات ممزقة، هُتكت عذريتها، ولا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها أو مع العالم، فيشرع بلا توقف في استعادة الأمكنة الأولى لديه في دلالة لا تخفى عن رفض قبول الأماكن التي رمي فيها لاحقاً. جاءت المدونة السردية لغائب طعمة فرمان وكأنها تعويض عن فقدان عالم أليف، فكان يستعيده بسرد غزير يطوي ذلك العالم بتناقضاته ولهجاته وصراعاته. ولعل روايته"النخلة والجيران"هي الأكثر تمثيلاً لحالة ركود الواقع العراقي في خضم المتغيرات، وتدور أحداثها على خلفية الاحتلال الإنكليزي للعراق في أربعينات القرن العشرين، فظهرت الشخصيات منزوعة الإرادة، ومجرّدة عن أي فعل إيجابي، ومضت في حال يكتنفها اليأس إلى نهايات مقفلة أدّت بها إما إلى الموت أو القتل أو الغياب، وبذلك تكون الرواية قد طرحت قضية التاريخ الراكد للأمة في ظل الاحتلال الأجنبي حيث يتلاشى الأمل بالتغيير، فكل شيء في تراجع مطّرد، إذ تستسلم معظم الشخصيات ليأس عام يخيّم عليها من كل جانب، وتذوي النخلة الوحيدة، وتباع الدار، ويهدم الإسطبل، وتبدو المشاركة الاجتماعية مشلولة، بل معطّلة، فقد انسدت الآفاق أمام شخصيات مهمّشة جرى كبح فعلها من طرف غامض، وأصبحت طيّ النسيان. فشرعت في الاقتصاص من بعضها بالطمع والقتل والخداع. ومضى السرد في تعميق المفارقة، فقد أطبق اليأس على مجتمع"النخلة والجيران"فانفلت العنف ليمارس دوره بدواعي تحقيق عدالة غائبة، أو رغبة في الامتثال إلى عرف اجتماعي أو قبلي، فالقتل نزوة عارضة مدعومة بفرضية أخلاقية مبهمة، يمكن أن يقابل بتقدير اجتماعي يرفع من شأن القاتل في ظل انهيار سلطة الدولة، فلا يحتاج إلى سبب كبير لحدوثه إنما تدفع به مشاجرة تافهة، وخصومة عابرة، لأن الأرواح البشرية فقدت قيمتها في مجتمع الرواية وحينما يبلغ الإحباط العام مداه الأقصى تلوح فكرة العنف، ثم تتبلور، وتصبح ممارسة فعلية. العنف ذو مسار لولبي يتدفّق في وسط أخلاقيات رخوة، ثم يصبح سلوكاً اجتماعياً محموداً، من دون أن يقع التفكير بتداعياته. وبإزاء عنف يتغذّى ببطء جراء الاحتلال انحسرت الروح المدنية لبغداد، فكان أن انخرطت شريحة من العراقيين في مضاربات ممنوعة مع الجيش الانكليزي، فذهب بها الظن إلى أن المحتلين باقون إلى الأبد، وكفّت فئة أخرى يدها عن أية مسؤولية فراحت تتبرم يائسة، وانحسرت الأفعال الإيجابية من فضاء السرد، فمضى الرجال يدورون في حلقات مفرغة من الإحباط والبطالة، وجرى العبث بالنساء اللواتي خدعن، ووقع استغلالهن عاطفياً ومالياً، وامتد ذلك إلى النخلة والبيت، وهما شاهدان على التراجع الثابت في نظام القيم، فكأن زمن الرواية يمضي إلى الوراء بعد أن تفكّكت الأواصر الاجتماعية، وبها استبدل سلوك اجتماعي خديج لا هوية له، فترك الشخصيات تنزلق إلى آثام سلوكية قاعدتها الخداع والطمع، فلا تكاد تظهر شخصية سوية، حتى"سليمة الخبازة"لم يوفّر لها السرد حصانة الاستقامة، فابتكر لها سذاجة دفعتها إلى الوقوع في أحابيل"مصطفى"المخادع الذي كان يتاجر بالممنوعات مع الجيش الانكليزي. خيَّم السكون على الشخصيات، فجاء وعيها بذاتها ساكناً لم يتعرّض للتغيير، وخضعت الأحداث لزمن شبه راكد، فالبشر والأشياء والأمكنة تتردّى ببطء، واكتسى كل فعل بعدمية، ثم انتهى بإخفاق، وقد تضافرت البيوت الخربة، والأزقة الموحلة، والشخصيات الضالة، والحركة الرتيبة، في ما بينها، فأصبحت أدلّة على أفول عالم، وتعذّر انبثاق آخر بديل، فمشهد القتل العنيف الذي ختمت به الرواية رسم في أفق السرد حلاً مبهماً لنهاية عالم"حيث يريد"حسين"أن يتخطّى إخفاقاته على مستوى الحب، والمال، والبنوّة، بالقتل، فابتاع مدية حادة، وراح يلاحق"ابن الحولة"متردداً وخائفاً من دون أن يجد سبباً مقنعاً للقتل، فبحث عن أية ذريعة كي يتراجع عن رغبته القاتلة إلى أن عرض له"ابن الحولة"في حالة سكر شديد، فكأنه يدعوه لقتله، فيترنح المجرم الأصلي قتيلاً دونما سبب مباشر سوى أن البطل الجديد رغب في إرسال السكين إلى جسده المخمور ليمارس دوره، فكأنه ضحية بريئة. قُتل المجرم القديم لأن المجرم الجديد راوده حلم بدوره اجتماعي يرهب به الآخرين بوصفه قاتلاً أكثر مما كان يريد الاقتصاص من المجرم بسبب جريمة قتل صديقه. وجاءت الجريمة الثانية مكافئاً لدور بطولي مقترح، وليس عقاباً عن جريمة سابقة، ومهما كان فلا يمكن التورط في جريمة بسبب جريمة أخرى، فتلك متاهة من العنف لا تفضي إلا إلى مزيد من أعمال القتل. لكن القتل في مجتمع راكد بدواعي الشرف أو الثأر أو البحث عن دور جديد له معنى عرفي يتعارض مع الدلالة المدنية لمفهوم العقاب، فغالباً ما يتولّد عنه نوع من الترقية الاعتبارية العامة، فيحتفى بالقاتل لأنه عرض معنى مضافاً لبطولة فردية تصون العلاقات التقليدية، فالتكافل السلبي بين الجماعات والأفراد ينتج معاني متحيّزة للقتل بدواعي الشرف والهيبة والثأر، فيصبح ممارسة محمودة يراد بها الحفاظ على الروابط التقليدية، وصون القيم الجماعية، وهو أمر يلاقي دعماً قوياً في مجتمع الرواية الذي يعاني من العوز، ويفتقر للإرادة، ويساوي بين القتلة والضحايا، والمخادعين والمخدوعين، فينعدم التمييز بين الشرّ والخير، وبين الخطأ والصواب، فكلما جرى محو الحدود الفاصلة بين الآمال والإخفاقات انكشفت هوة خطيرة أمام الجميع، فيصبح انزلاقهم إليها محتملاً.