لا أعرف من كان وراء رفع هذا المطلب الاقتصادي البسيط: 1200 جنيه مصري حوالى 200 دولار، كحد أدنى للأجور. فعبقريته اللافتة تبدو غريبة على عقلية العمل السياسي الاحترافي في مصر. أقصد بهذا العقل تلك الدائرة المغلقة من الأفكار السياسية التي تربط أحوال المصريين برؤى إطلاقية معممة، على شاكلة الإصلاح السياسي والديموقراطية، وهي رؤى على أهميتها لا ترقى إلى إنصات عموم المصريين، حيث تشيّأت علاقة الجماهير المصرية بالسياسة منذ زمن طويل، وهو تشيؤ غلَب فيه المواطن العادي مصالحه اليومية الحياتية من عمل وكفاح واستمرار في الحياة تحت أدنى الشروط الإنسانية محل الحديث الكبير المفخم والعلوي عن همومه الجمعية. الحالة الأخيرة، والتي يسميها علماء الاجتماع السياسي ب"غلبة السلبية المصرية"، هي النجاح الأبرز للنظام المصري. أما اغتراب المواطن الميت/الحي بوسائل المقاومة الفردية والمراهنة على حكمة"دوام الحال من المحال"التي تستجدي قوى علوية كفيلة بالتغيير، فهو صلب رهان المستفيدين من"ديمومة الحال". بساطة الشعار"1200 جنيه حد أدنى للأجر"، تضرب حتى النهاية هذا الانصراف الجماهيري، لأنها تذكره بأجره، ديمومة مأزقه الشهري العادي، حسبته اليومية المحيرة، وهي تنزل بعلياء السياسة إلى مصاف المعاش المعمم. المطلب بسيط لكنه شامل، يتخلل بنية اللامساواة الطبقية المرعبة في مجتمع تنشغل أطرافه عمال، وطبقة وسطى بمطاردة طواحين هواء الترقي الطبقي كما يطرحها نموذج النجاح العام، القرب من شبكات الفساد، الوقوف في طابور التبعية السياسية المباشرة للحزب، الثقة في الحدود القصوى لطموح الصعود البرجوازي داخل بنية رأسمالية مشوهة. 1200 جنيه حد أدنى للأجر، أقصى طموح الصحافيين مثلاً، حيث جموعهم نحو 6 آلاف نقابي تخوض حرباً شرسة لتطبيق عقود عمل تبدأ من 500 جنيه. وهي حلم المتخرجين حديثاً في سوق عمل رأسمالي تدور حدود عقوده المتميزة عند 450 جنيهاً مصرياً. وهي فردوس المعينين في الدولة، حيث لا يزال الأجر الأساسي لا يتجاوز 150 جنيهاً. نحن أمام نقلة في الوعي السياسي الحقيقي لقيمة العمل، وهي نقلة لو قدر لها التحول إلى شعار مطلبي وبرنامج عمل سياسي واسع الجماهيرية لأصبح في الإمكان أخيراً الحديث عن اختراق تاريخي في"لهو السياسة المصرية". الظاهرة التي خرجت أخيراً رافعة مثل هذا المطلب، والتي شاركت فيها قوى سياسية عمالية ويسارية وقومية، لم تستطع الوصول بمطالبها إلى"رصيف الاحتجاج"الدائم على سور مجلس الشعب البرلمان، حيث يستقر العشرات من الموظفين المعتصمين منذ أشهر والعاملين في نحو ست شركات مصرية، وبعض أهالي المناطق المتضررة من سياسات المحافظين. هذا الرصيف يسمح به النظام ويسهل عبور كاميرات الفضائيات يومياً إليه لتأكيد مسحته الديموقراطية تجاه المطالب المشروعة. تكنيك النظام في الفصل بين عشرات المتظاهرين على حافز أجر لم يصرف، وبين قوى سياسية تتحدث عن الإصلاح السياسي والبرامج السياسية النخبوية، هو تكنيك جديد، فتنفيس غضب شذرات من الموظفين والعمال ينتهي غالباً بتفاوض ومكاسب مرحلية يفيد الدولة والنظام في اكتساب مرونة وتدريب عضلاتها على القادم من أيام الانفجار المجهول والمحتوم، وهي تخصص لهذا الاستعراض نواباً ووزراء يتدخلون في لحظات بعينها بمنح تعيد بعضاً من الحق إلى أصحابه. يحدث هذا تحت أعين أجهزة الأمن التي تبدي ليونة ذكية في التعامل مع هذه الاحتجاجات، فيما على الرصيف الآخر تستعمل أشد أدوات القمع تجاه المطالبين بالإصلاح السياسي الفوقي، ثم تتكفل فضائيات وصحف بإسباغ صفات المشروعية المطلبية على هذا وذاك، وفقاً للأريحية الأمنية السياسية. الأزمة - كالعادة - هي أن الشعار الذكي وحده لا يكفي. فتشبيك الشعار بحياة مصريين يمرون كراماً في الباصات يمصمصون الشفاه على المتظاهرين، أمر محل شك، ومحاولة استثمار هذه الخلاصة المطلبية لتصبح على أولوية تحالف سياسي واسع، أمر بعيد المنال، وغواية التثاقف السياسي لدى المحترفين، ستعود لتحقير بساطة المطلب والشعار، ثم ستدور الماكينة الإعلامية الحكومية للتحدث عن"اللامعقولية"و"التكلفة الخرافية"لهذا المطلب، رغم أن الشعار ينقصه توضيح بسيط، وهو أن 1200 جنيه مصري هو خط الفقر العالمي، وأن حزمة من الأرقام الحكومية تخرج 80 في المئة من المصريين من حدوده، وأن قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى ستستفيد منه وليس الفقراء والمعدمين وحدهم. هذا الشعار القادم من زمن بساطة الأفكار والقيم، يفترض وجود حد أدنى للخصومة الطبقية، أي وجود قوى اجتماعية سياسية اقتصادية مناوئة له، كتحالف واسع لرجال أعمال مثلاً، كما يفترض سلطة سياسية ذكية ترفع عن نفسها الأعباء المترتبة على مواجهة الجميع، وهو افتراض كالعادة ليس في محله. فالنظام المصري سيقاوم بعنف لا يتناسب مع موقعه الحقيقي من إدارة النشاط الاقتصادي، وسيتحدث عن كلفة ذلك على مستوى الأنشطة المرهونة بقبضته وهي لا تتجاوز حدود 20 في المئة من بقايا طبقته العاملة والعاملين في دولته، وسيحمي ببطش، لا يستثني أحداً، شرائح من رجال أعماله، لا لشيء إلا لاجهاض أي حس انتصاري قد يشعر به الناس من مثل هذه المعركة، لأن النظام سيبقى الراعي الرسمي لمشهدية"مصمصة شفاه البسطاء"، فيما القوى السياسية المعارضة ستكتفي بشعار"عملنا اللي علينا والباقي على الله". نشر في العدد: 17201 ت.م: 09-05-2010 ص: 25 ط: الرياض