موت السياسة في مصر يتخذ منحى وشكلاً جديدين هذه الأيام: ظاهرة يمكن تسميتها ب «مسرح هواة السياسة». هذا المسرح الذي نصبت منصته مع إطلاق مجموعة من مناصري نجل الرئيس حسني مبارك حملتهم «العفوية» للتأييد. هكذا تظهر أسماء جديدة لمواطنين عاديين في عناوين كبريات الصحف المصرية المستقلة والعامة: مدرس أو عامل نظافة أو ناشط سياسي من أقصى اليسار أو مندوبة قاعدية في حزب معارض. تتصدر فيالق الشعب المجهّل هذه، لتتحدث باسم الحملة المصرية للتأييد، أو حملة الوفاق الوطني لترشيح السيد جمال مبارك رئيساً للجمهورية. يتزامن ذلك غالباً مع إعلان القيادات الرسمية للحزب الحاكم تبرؤها من مثل تلك الحملات، ربما تأكيداً على الحس العفوي كما تريد أن توحي، أو شماتة وتعالياً مقصوداً على معارضيها الذين اعتصموا طويلاً بمثل هذا التكنيكات. كأن النظام هنا يطبق الحكمة الشعبية «كل برغوث على قدر دمه»، بمعنى أنه أكبر من أن يواجه خصوماً أقزاماً، وأنه سيترك للمتبرعين الأقزام أمر المواجهة على المستوى نفسه. تأمل شخصية إعلامية بارزة الآن كمجدي الكردي، الناشط سابقاً في حركة كفاية، المنثور كتيمة صامتة في أرشيف الحركة المصور، وهو يلصق شعار الجماعة على فمه في كل صور تظاهراتها...، تأمله وهو يحمل إناء فيه مادة لاصقة، ونسخاً من ملصقات لمرشحه التوافقي، يهرول في جنبات القاهرة، ويؤكد أن القفزة النوعية لاستعراض السياسة في مصر قفزة بسيطة ولا تؤرق أحداً، وأن السياسة بتعريفها المبسط المخجل ك «فن للممكن والمتاح» أو كلاشيهاً باذخاً ك «مجال لا تصلح فيه العداوات الدائمة أو الصداقات الدائمة»، هو ما تنتجه «المسرحية الهزلية» للسياسة في مصر. أن تكتفي الصحف بلقب «سالم» للعضو القاعدية المنشقة عن حزب الوفد ابتهال سالم، وقد تحولت إلى «علم» في حملة مبايعة ابن الرئيس، لهو جل ما كانت تتمناه فتاة بسيطة، انتهزت «أوكازيون» تخفيضات الشهرة كما تتمناه الصحف السيارة. لكن ثمة ما يبقى عالقاً في الذهن من اتّباع النظام لذلك التكنيك، وهو تهجئة النظام غالباً لكل الكلمات الإبداعية لمعارضيه، ألم يطلق النظام منذ سنوات مجلساً أعلى حكومياً لحقوق الإنسان لمواجهة الضغوط الدولية في هذا الحقل؟ ألم يسمح بتأسيس منظمة حقوق إنسان تدافع عن حقوق الشرطة وقف مؤسسها حاملاً حذاءه، ومهدداً الدكتور محمد البرادعي بالضرب خلال احتفال عيد الشرطة الأخير؟ ألم يؤسس «مجاهيل» حملة على الفايسبوك لمبايعة جمال مبارك على خطى نجاح ظاهرة البرادعي عبر الوسيط نفسه؟ وكأن أجهزة النظام البيروقراطية المتكلسة تصحو من غفوتها متأخرة لتقلد على استحياء وبركاكة بالغة أدوات خصومه. يبدو المنتج التقليدي شبيهاً بجودة المنتج الصيني الشعبي، يبدو مناسباً فقط لبهجة العناوين البراقة، التي سرعان ما تنطفئ مثلها مثل بهجة «الصيني». العقل المدبر لهذا التقليد الجديد، تقليد اللحاق بخطى الخصم عبر تقليد علامة الجودة لا أكثر، عقل ذكي ذكاء بليد ذهن يواجه خصمه في الملاسنة والسباب بجملة «أهو أنت». جرب النظام هذه التكنيكات سابقاً في شكل محدود، لكنه الآن كالعادة يفتح خطاً معمماً للإنتاج. فعندما أزعجته الفضائيات المستقلة، صبر عليها حتى أطلق قناة فضائية شبه مستقلة استولت على أسلوب التوك شو السياسي الفاقع، وحولته إلى «فقاعة صابون» لا تنفقع ولا تترك مجالاً للنقاش الهادئ. أما عندما أرقته الصحافة المستقلة، فكظم غيظه وناور وحاور وضغط، حتى حول أشهرها إلى بوق دعاية مجاني له باسم الوطنية المصرية. هو تكنيك بسيط مفاده تفريغ أي قيمة أو أي إبداع للغير من تفرده، بتعميم منافس صيني رخيص، أو ضرب خط الإنتاج بعيب في الصناعة لا تخطئه عين. النتيجة في النهاية بسيطة أيضاً: لا أصالة في أي منتج محلي مصري، لا ديمومة لبشرى زائفة، وتعميم بائس للخراب المتواطأ عليه. بالعودة إلى ظاهرة «هواة السياسة»، يصبر النظام كثيراً على خصومه، سامحاً بحد أقصى متدنٍ لطموحاتهم، سقف نسبي تضبطه إما هراوة الطبعة الأمنية منه، أو تسريبات متفائلة تتولاها أجنحته المفترض فيها التناطح. ولأن «آفة حارتنا النسيان»، كما لخص نجيب محفوظ عبقرية مصر، يناضل خصوم النظام بين صور وتمثلات عن النظام، لا عن النظام نفسه. تفترض الصحف المستقلة تهكماً واجباً على دعاة «التوريث» الشعبويين، فيتحول الأخيرون إلى نجوم في فراغات حركة النظام، يملأ «الكردي» و «سالم» هواء البث بما لم يجرؤ عليه مسؤول رسمي من النظام في محاباة التوريث. ويخرج مسؤول قيادي في الحزب، كان قد نفى قبل أسابيع أن يكون هناك مرشح غير الرئيس مبارك، ليقولها صراحة: «ليس هناك ما يمنع أن يكون السيد جمال مبارك مرشحاً للحزب في الانتخابات الرئاسية». بمعنى آخر، تحولت قنبلة الدخان الساخرة إلى سلاح فتاك يقتل بالصدفة، فتنتشر على أثره فيالق الباحثين عن شهرة التمسح في الحزب. يستثمر عقل النظام غالباً في مصطلح «التغذية الراجعة». هو لا يملك خيالاً أبعد من خصومه، لكنه قادر على تحويل مجمل تملّصهم من سلطته إلى سلطة مضاعفة. هو ليس مشغولاً عن حق بمستقبله، هو أقرب الى حكمة أطلقها صديق لغوي ليبرالي. فكلما أحجم عن استساغة اشتقاق لغوي حديث مفارق لقاعدة مندثرة كان يقول: «تمشي... جربناها ونفعت». وهكذا فالنظام يجرب الآخرين وينتفع وحده.