الهدف الاساسي لأي نظرية نقدية للمجتمع هو البحث والتبصر في الواقع الاجتماعي والنظر الثاقب في العلاقة الجدلية بين الفكر وممارسته في الواقع من خلال دراسة تقسيم العمل الاجتماعي والعمل الفكري والعمل العضلي. ولذلك من الممكن ان نفهم النظرية النقدية للمجتمع كممارسة اجتماعية، وكفلسفة واقعية، أي اتخاذ موقف واضح من النظرية ومن ممارستها في مجال العلاقات الاجتماعية، انطلاقاً، ليس من فهم المجتمع وتحليله فحسب، بل واتخاذ موقف واضح منه لتغييره. ترتبط الممارسة العملية بمشكلة الجدلية بعلاقة معقدة، وفي شكل آخر بالعلاقة بين التفكير والعمل. فالعمل يحتاج دوماً الى تفكير والتفكير هو فعالية تتم في الرأس، وهو في ذات الوقت، شكل من اشكال العمل الفكري، على رغم وجود صراع وتوتر وتناقض بين التفكير والعمل وبين النظرية والممارسة، والهدف من كل ذلك هو نقض النقض. والتناقض بين النظرية والممارسة من الممكن ان يكون بسيطاً، فهو لا يجري دوماً كما يتصورالمرء. ففي الممارسة توجد عقبات وبخاصة عند تطبيق الافكار. أي فكرة جيدة من الممكن تنفيذها بسهولة إذا كانت النظرية التي تعتمد عليها قد تبصرت بالمشاكل التي قد تحدث عند تطبيقها في الواقع العملي. وعلى سبيل المثال فحين أقول:"لقد صلحت الجهاز". فيجب نظرياً ان يقوم الآن بوظيفته ثانية. ولكن في مجرى الحياة اليومية سيختلف الأمر. فنحن نعلم انه في الاختبار العلمي فقط نستطيع ان نعرف تماماً ما إذا كان الجهاز يقوم بوظيفته أم لا ؟ وهكذا من الممكن ان نحصل على معرفة علمية. وهناك أمثلة من الحياة الاجتماعية والسياسية اليومية. فهناك من يتشدق بالحرية والديموقراطية فيرفع، مثلاً، شعار حرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ولكنه في الواقع ينكر ذلك ولا يسمح بتحرر زوجته أو أخته ومساواتها مع الرجل. الممارسة إذاً هي المحك وليس الفكر، مثلما لاحظ هيغل، بأن في كل النظريات تبقى الممارسة هي مقياس الحقيقة. والممارسة هي ليست دليل النظرية فحسب، وانما يجب ان تشتق النظرية من الممارسة. والممارسة متعددة الجوانب، فهي تعني العمل، السلوك والتصرف. وفي معنى اوسع تعني: الفعل الاجتماعي، أي النشاط الانساني الجمعي والفردي. وأبعد من ذلك، فالممارسة تعني جميع النشاطات الانسانية التي تستخدم بصورة مباشرة للحفاظ على النوع الانساني، فهي رديف ل"التاريخ"، أي اشكال تاريخية حقيقية من الافعال الاجتماعية: نشاطات متعددة كالعمل الاجير والعمل البيتي وغيرها، وكذلك نشاطات إنسانية عامة كالترويح عن النفس واشباع الرغبات أو السلوك الجنسي والنشاطات الثقافية والفنية والسياسية وغيرها. وتعتبر النظرية النقدية فلسفة ممارسة، كما في مفهوم الممارسة العضوية عند أنطونيو غرامشي 1891-1938 التي تعتبر بهذا المعنى انحيازاً سياسياً لدى بعض المنظرين النقديين. حيث سمى غرامشي فلسفته النقدية"فلسفة للممارسة"وناقش اشكاليتها: ينبغي ان يمارس المثقف دوره وان يتدخل في الصراع الاجتماعي القائم كممارس. ووضع نموذجاً ل"المثقف العضوي"الذي ينبغي ان يأخذ موقفاً منحازاً من النظرية النقدية. وكان غرامشي بدأ بوضع نظريته النقدية بعد التداعيات التي أفرزتها فترة حكم ستالين وخروج تروتسكي واغتياله عام 1946 وكذلك إعدام بوخارين وإدانة المثقفين لأفكاره وسياسته الشمولية وظهور تيار ماركسي جديد وقف ضد الأممية الثالثة. كما كان غرامشي في مقدمة من كسر الأطر التقليدية للاتجاه الستاليني، الذي اخذ يضفي هالة من التقديس على المادية التاريخية من دون فهم الواقع الاجتماعي، ويؤسس لمذهب انساني جديد منفتح يقوم على سياقات فكرية ومفاهيم جديدة شملت مفهوم الممارسة البراكسس، بعد أن أضفى عليها مفهوماً مغايراً للماركسية السوفياتية التي، بحسب تعبير غرامشي، هي"تطبيق لقوانين المادية الجدلية في الطبيعة على مجال التاريخ"، مؤكداً على الاختلاف بين ماركس وانجلس بخصوص ديالكتيك الطبيعة، الذي يتجه نحو هيمنة الدولة. وقد طور غرامشي، في ذات الوقت، مفهوم"الهيمنة"الذي هو أكثر تقدماً وواقعية من مفهوم"ديكتاتورية البروليتاريا"وإلغاء هيمنته وكذلك اعطاء أولوية للبناء الفوقي، مؤكداً على آليات التحكم الأيديولوجي. فالوعي الحقيقي يتكون من خلال الصراع في حياة البشر من طريق الممارسة، أما الوعي الآخر فيحدد الهيمنة ويتطور عبر الوعي العفوي الذي يحدده الواقع والظروف الاجتماعية لأنه عنصر قوة مهيمنة تحدد الوعي السياسي، الذي يشكل المرحلة الاولى للوصول الى الوعي بالذات التجريدي، الذي يحدد في الاخير العلاقة بين النظرية والممارسة. والنظرية النقدية للمجتمع، كما هي عند مدرسة فرانكفورت، بديل نظري نقدي واضح المعالم يهدف الى الوقوف امام التيارات الفكرية التقليدية التي مارست وما زالت تمارس اشكالاً من التسلط والقهر الفكري والتي لا تقوم على الربط الجدلي بين النظرية والممارسة، ولا تكتفي بالربط بين النظرية والممارسة العملية فحسب، وانما تربط بينهما ربطاً جدلياً يجعل النظرية تتفتح على الجانب التطبيقي في لحظة تشكيل المصلحة وأن يكون نقدها للمجتمع نقداً جذرياً وأن تبحث عما هو مغطى وعلى المرء ان لا يقف على السطح ليصف الظواهر الاجتماعية من الخارج، وإنما عليه ان يفسر ما وراء الظواهر. إن أهمية النظرية النقدية تقوم على نقدها الجذري للواقع الاجتماعي، وهذا النقد يساعد الانسان على الوقوف على رجليه وليس على رأسه حتى يستطيع تحدي عملية التغبية وغسل الدماغ التي تعيق تقدمه. وحتى يكون المجتمع قوياً فلا يكفي التنظير فحسب، بل ربط النظرية بالممارسة العملية وان تكون المعرفة عقلانية وكذلك وسائلها واهدافها، كما يجب ان يكون الربط بين النظرية والممارسة جدلياً وفي إطار نقد أيديولوجي يتيح للانسان الكشف عن امكاناته اللامحدودة وتقديم الحلول له التي تساعده على تكوين وجود عقلاني منور. تصبح المعرفة النظرية النقدية مرشدة للعمل، التي توجه الفعل الاجتماعي، كما تصبح الممارسة العملية مفتاح السر لفهم الفعل الاجتماعي وتفسيره.