1 لست صديقاً لمحمود درويش، ولم ألتقه في حياتي سوى مرة واحدة العام الماضي في دار"اليونسكو"في باريس... كان ذاك هو اللقاء الأول والأخير لي معه، أصبحت بعدها صديقاً له! لم نتهاتف ولم نتكاتب ولم نتبادل حتى السلام شفاهاً منذ ذاك اللقاء لكننا رغمذا أصدقاء! أمحمود مهلاً... فليس الصديق الذي قد يراك كثيراً كثيراً وليس العدو الذي قد جفاك طويلاً طويلاً وليس... وليس، فإني أحنّ إلى خبز أمك و"قدس"أبيك وفنجال ثأريَ من طارديك أحنّ إليك لأني صديقك... دون التقاء فأيّ شفيفٍ من الأصدقاء؟! كانت أمسية شعرية حية حقاً في قاعة اليونسكو الكبرى، التي أصبحت"صغرى"باكتظاظ الحضور. بعد الأمسية، عرّفني إليه صديقنا المشترك الكاتب المؤرخ إلياس صنبر سفير فلسطين لدى اليونسكو. بحق، كنت مندفعاً للتعرف عليه، ليس لأنه من المشاهير والرموز الجذابة، ولكن لأنني رأيت وأحسست فيه نبلاً وبساطة وخجلاً غير معهود لدى الرموز ! كان يلقي شعره على المنصة بامتنان للجماهير.. وليس بمنة، ويكاد يصفق لهم قبل أن يصفقوا له. أدركت حينها أن هذا الشاعر المتعلق بأمه وخبز أمه وقهوة أمه، ما هو إلا"طفل كبير"نزع من حضن أمه قبل الأوان، ثم قُذف به في حضن الجماهير... يعتصره الخجل والحنين إلى أمه مثل كل طفل صغير. لم يكتب درويش، رحمه الله، شيئاً يذكر في ما سوى أمه وفلسطين. كان يكتب عن أمه وكأنها فلسطين... ويكتب عن فلسطين كأنها أمه... فيلتبس على القارئ أهذه القصيدة عن أمه أم عن فلسطين، وهو لا يدرك أن محمود درويش نفسه قد التبس عليه إن كان الوطن هو الأم أم أن الأم هي الوطن ؟!... إنه شاعر الأُمّين. 2 استمر شعراء الحداثة سنين طويلة يغوصون في غلواء تهويماتهم وغموضهم وضبابيتهم، يخشون كل الخشية أن تكون لقصائدهم قضية أو مضمون، هروباً من فخ العادية والمباشرة التي هي لعنة الشعر التقليدي، حتى جاء محمود درويش وكسر بشعره أيقونة"اللاقضية"في الشعر الحداثي فأصبح محمود درويش أول شاعر حداثي لدية قضية ! كانت المسألة ببساطة، كما أدركها درويش، أن لا تنشغل بالهروب من قضايا وتهم وشعر الآخرين... بل بالهروب إلى قضيتك وشعرك أنت. 3 العملاق قبل الأخير ! كلما مات شاعر كبير، قالت العرب: رحيل آخر العمالقة! لكننا لحسن الحظ لا نُعدم أن نرثي عملاقاً آخر بعد آخر العمالقة بسنين ! ترى من سيتعملق من شعراء العرب الآن؟ من سيكون"آخر العمالقة القادم"؟! رحم الله محمود درويش... العملاق قبل الأخير. * سفير السعودية لدىپ"يونيسكو".