غداً الأحد يعقد في جدة اجتماع موسع يحضره ممثلون عن الدول المنتجة والمستهلكة للنفط. وغاية الاجتماع - كما حددها كبار المسؤولين في الدول المستهلكة - تتعلق بمناقشة مختلف الخيارات المطروحة من أجل كبح جموح أسعار الطاقة ولجم ارتفاعها المتواصل. وكان نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني قد زار السعودية مطلع شهر آذار مارس الماضي، في محاولة لإقناع دول"أوبك"بأهمية رفع مستوى الانتاج لعل هذه الخطوة تساعد على خفض سعر البرميل الذي تجاوز في حينه المئة وعشرة دولارات. خلال تلك الفترة، أوصت لجنة مراقبة السوق المؤلفة من وزراء دول"أوبك"بضرورة تمديد العمل بمستوى الانتاج الحالي لأن الزيادة لن ترفع قيمة الدولار الذي خُسر خمس قيمته مقابل اليورو منذ مطلع سنة 2007. وهذا ما أكده وقتئذ رئيس منظمة الدول المصدرة للنفط شكيب خليل الذي كشف عن وجود مخزونات وفيرة لدى الدول المستهلكة. وقد أيده في هذا الرأي وزير النفط السعودي علي النعيمي يوم أعلن ان ارتفاع أسعار الطاقة لا علاقة له بأسس السوق. وزير النفط والثروة المعدنية السعودي علي النعيمي لم يبدل رأيه السابق، ولكنه طالب بضرورة ايجاد حل مقنع لأسعار الطاقة المرتفعة، والتي اعتبرها مضرة بالاقتصاد العالمي، خصوصاً بالدول النامية، وفي تصوره ان عوامل السوق الاساسية لا تبرر ارتفاع سعر البرميل الى 140 دولاراً. وكما غاب التفسير الواضح لدى منظمة البلدان المصدرة للنفط أوبك كذلك اعترف وزراء المال لمجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، بالفشل الذريع في استكشاف أسباب"التقلبات الجارفة"لأسعار النفط. وقد عبروا عن هذه الحال بوضوح عقب اجتماعهم الأخير في اوساكا اليابان وإقرارهم في البيان الختامي، بأن اسعار النفط المرتفعة باتت تهدد نمو الاقتصاد العالمي وتعقد خياراتهم السياسية. لذلك طلبوا من صندوق النقد الدولي تزويدهم كامل المعلومات الواقعية عن الاحتياطات والمخزونات وعمل السوق وقدرات الانتاج والتكرير. من المقرر ان تضخ السعودية الشهر المقبل تموز يوليو بأقصى الانتاج، وذلك بهدف كبح جماح ارتفاع اسعار النفط، علماً بأنها تعتبر الامدادات العالمية كافية، وان هناك عوامل أخرى تؤثر على السوق، ومن المتوقع ان تصل نسبة الانتاج الى 9.45 مليون برميل يومياً، بعد الاعلان عن زيادة الانتاج الى 300 ألف برميل يومياً. والمعروف ان السعودية تملك طاقة احتياطية تقدر بمليوني برميل يومياً لتغطية الانقطاعات الطارئة في منتجات الدول الأخرى. وهذا ما فعلته أثناء توقف النفط العراقي، عندما بادرت الى زيادة الضخ من أجل الحفاظ على المستوى المطلوب. ويرجح ان تأتي الزيادة من حقل"الخرسانية"الذي ينتج خاماً عالي الجودة. يبقى السؤال المثير والمتعلق بعملية تبديد المخاوف: هل تؤدي زيادة الإمدادات الى خفض أسعار النفط بحيث يتراجع الى ما دون الثمانين أو الستين دولاراً، مثلما كان في آخر السنة الماضية؟ ويستدل من عملية رصد الأشهر الأخيرة من سنة 2007، ان موجة ازدياد الاسعار قفزت الى ما فوق 81 دولاراً في منتصف ايلول سبتمبر، وقد صدرت في حينه عن المصارف والشركات سلسلة مبررات أهمها: أولاً: ازدياد الطلب من الولاياتالمتحدةوالصينوالهند. وسجلت بكين زيادة وارداتها من النفط الخام السعودي لسنة 2008 بنسبة 30 في المئة، وذكر مصدر في شركة"سينوبيك"- أكبر شركات التكرير في آسيا - ان الصين طلبت من السعودية زيادة وارداتها من 460 ألف برميل يومياً الى 600 ألف برميل. وذُكر ان الزيادة كانت من أجل تغذية مصفاتين جديدتين، الأولى مصفاة"فوجيان"بطاقة 240 ألف برميل يومياً، والتي تملك شركة"أرامكو - السعودية"حصة 25 في المئة فيها، ومصفاة"شاندونغ"بطاقة 200 الف برميل يومياً والتي صُممت لمعالجة الخام السعودي. وهكذا ظهرت الصين - ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم - غير مهتمة بالتوترات السياسية الناتجة عن برنامج طهران النووي، وبما ان ايران هي ثالث أكبر دولة مصدرة للنفط الخام الى الصين بعد السعودية وانغولا، فقد حاولت واشنطن تكليفها بالضغط على الحكومة الايرانية من أجل وقف برنامجها النووي، وتجميد مساعداتها الى"حزب الله"و"حماس"، ولكن هذه المساعي باءت بالفشل، الأمر الذي أجبر وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون، على حصر محادثاته في بكين هذه الاسبوع، بالشؤون الاقتصادية فقط. إدارة الطيران المدني في الصين باشرت في تنفيذ استراتيجية بناء 97 مطاراً وعدت بأنها ستكون جاهزة لاستيعاب حركة النقل والسفر المتزايدة. ورصدت لتنفيذ هذا المشروع الضخم 42 بليون يورو، ويتوقع الناشطون في حقول التنمية ان تحتل الصين بعد عقدين من الزمن، الموقع الذي تحتله الولاياتالمتحدة حالياً. وسيرتفع الناتج الداخلي الصيني الى 130 في المئة من حجم ناتج اميركا. ومثل هذا التحول سيؤثر حتماً على نمط واسلوب الحياة في الغرب والشرق معاً. ففي حين نرى ان المواطن الاميركي قد تخلى عن سيارته الفارهة وعن أسفاره بالطائرات، نفاجأ بأن هناك أكثر من خمسين بليونيراً في بكين وشانغهاي تتعدى ثروات الواحد منهم البليون دولار. كما وصل عدد الذين يملكون مئة مليون دولار الى الفي شخص. ومثل هذه الطفرة زادت من مستلزمات اقتناء سيارات"الرولز رويس"و"الكاديلاك"، إضافة الى ازدياد أسعار العقارات الفخمة وتكاليف عضوية أندية الغولف. وكان من الطبيعي ان يجتذب مناخ الرفاهية مصارف دولية عدة مثل"سيتي غروب"الأميركي و"بي بي باريبا"الفرنسي. مقابل هذه الطفرة في الصينوالهند، يعاني المجتمع الأميركي من سلسلة أزمات اقتصادية، أثرت على وضعه المعيشي وعلى أسلوب حياة المواطنين، خصوصاً بعد هبوط قيمة الدولار وفقدان 15 في المئة من قيمته أمام العملات الأخرى. وقد اختلفت الدراسات حول الاسباب التي تقف وراء هذه الانهيارات المالية. بعضهم قال إن تكاليف حرب العراق التي وصلت إلى رقم غير مسبوق 3 تريليونات، هي التي قادت إلى أعلى مستويات العجز. والبعض الآخر قال إن أزمة الرهن العقاري أوصلت خسارات المصارف وصناديق الاستثمار إلى مبالغ خيالية قُدرت ب166 بليون دولار في الولاياتالمتحدة ومئتي بليون دولار في أوروبا وسويسرا. ونتج عن هذا الركود عقب ارتفاع سعر النفط، تراجع في مستوى الرفاهية التي طبعت المجتمع الأميركي بطابع البحبوحة والثراء. وفجأة، تخلى المواطن الأميركي عن سيارته الخاصة وراح يستخدم وسائل النقل العام للوصول إلى عمله. وشهدت القطارات ومتروات الأنفاق والحافلات ارتفاعاً كبيراً في أعداد الركاب. ثانيا، صعوبة الاعتماد على دول نفطية أساسية تعاني أوضاعها الداخلية من القلاقل والاضطرابات مثل نيجيرياوإيرانوالعراق. ذلك أن تصريح وزير النقل الإسرائيلي، الذي هدد فيه بشن هجوم على المواقع النووية الإيرانية، رفع سعر النفط في البورصات العالمية. وبما أن إيران تعتبر رابع دولة مصدرة للنفط وثاني دولة مصدرة للغاز، فقد أدى تصريح الوزير الإسرائيلي إلى ارتفاع سعر البرميل. ومثل هذا الوضع المتقلب شجع ممثل إيران في"أوبك"محمد خطيبي، على القول إنه يتوقع أن يبلغ سعر النفط بحلول شهر ايلول، نحواً من 150 دولاراً للبرميل. منذ اندلعت أحداث نيجيريا منتصف 2006، وثامن أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، تعاني من ضرورة خفض انتاجها اليومي بنسبة 547 ألف برميل. وقد تعرضت الشركات الأجنبية للخضوع إلى ابتزاز المخربين بعدما ثبت أن الجنود النظاميين مشاركون في اقتسام المغانم والمكاسب. عندما أعلن شكري غانم، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، عن اعتقاده بأن سعر البرميل سيستقر على 140 دولاراً، إنما كان يعتمد في توقعاته على ضعف الدولار وعمليات المضاربات والتوترات السياسية. لذلك رأى أنه من غير المفيد تعزيز الانتاج لأن العوامل المتحكمة بالسوق، تقع خارج نطاق سيطرة"أوبك". يتوقع المحللون عقب تعاظم سعر النفط، أن تعمل القيادات السياسية في الدول المستهلكة، على انتهاج سياسة بيئية أكثر اعتدالاً تؤدي إلى تقليص استهلاك الطاقة وإلى استخراج وقود غير أحفوري واستعماله. كما يتوقعون ضمور تأثير العولمة، والانكفاء نحو التجارة الاقليمية التي لا تحتاج إلى مواصلات طويلة وثقيلة التكلفة. وكما حدث خلال الأعوام الخمسة الأخيرة في روسياوإيران وفنزويلا، فإن الدول الخليجية مقبلة على انتقال بلايين الدولارات من مجتمعات الاستهلاك إلى الدول المنتجة، الأمر الذي يقوي الصناديق السيادية فيها ويزيد من عمليات الانفاق الخارجي، كما تفعل قطر. أما الجانب السلبي لهذه الطفرة، فيراه غولدمان ساكس بوصول سعر البرميل إلى مئتي دولار. ويترتب عن تعاظم الثروات استشراء الفساد وتكاثر الحروب الأهلية والخلافات العنصرية في افريقيا وتمويل حركات العصيان والتمرد القاعدة، وانهيار مصانع السيارات الفارهة والطائرات العملاقة. ومن المنطقي أن يؤدي افلاس شركات كثيرة في الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية، إلى ازدياد عمليات الدمج والانقاذ، وإلى ارتفاع عدد الشركات المعروضة للبيع بأسعار رخيصة، مثلما حدث أثناء انهيار بورصة نيويورك سنة 1929. سنة 2004 عقدت بكين صفقة مع إيران بمبلغ مئتي بليون دولار تشتري بموجبها كميات ضرورية من النفط والغاز. كذلك تم انشاء أنبوب يربط الهند بمصافي إيران بحيث يؤمن لثاني أكبر دولة في العالم حاجتها من النفط. وبما أن الضرورات الاقتصادية تفرض النهج السياسي، فقد أصدرت موسكووبكين بياناً مشتركاً أيدتا فيه بناء المفاعل النووي للأغراض السلمية. ويرى المراقبون أن هذا التأييد السياسي سلّح إيران بقوة دولية نافذة كان من الصعب عليها مواصلة المقاومة من دونها. في كتابه"فياسكو"كشف الكاتب الأميركي جاك اندرسون عن السر وراء ارتفاع سعر برميل النفط من 5.04 دولار الى 11.65 دولار. قال ان هنري كيسنجر قرر اعطاء شاه ايران دوراً متقدماً لحماية نفط الخليج بعدما اقنعه بضرورة انشاء ترسانة ضخمة من الطائرات والدبابات والبوارج الحربية. وبما ان ايران لم تكن تملك المال الكافي لشراء هذه المعدات، فقد اقترح كيسنجر رفع سعر النفط بحيث يتمكن الشاه من تأمين 17 بليون دولار. واتفق الاثنان على أخذ التغطية السياسية من دول"أوبك"التي فوجئ اعضاؤها بالاقتراح الذي قدمه الشاه، معتبراً ان المردود المالي يمكن استخدامه في حقل التنمية والتطوير. وكما ارتفعت صيحات الاعتراض من الدول المستهلكة، طلب الملك فيصل بن عبدالعزيز من الرئيس نيكسون ان يتدخل مع الشاه لإعادة سعر النفط الى مستواه السابق. وأرسل نيكسون وزير ماليته وليام سايمون الى الرياض في تموز 1974 ليقابل العاهل السعودي ويطلب منه مهلة لمراجعة الشاه. وما كان من الملك فيصل إلا ان حسم الموضوع بتكليف وزير الطاقة أحمد زكي يماني عرض النفط السعودي في مزاد عام في"روتردام". وكان من نتيجة ذلك ان هبط سعر البرميل من 11 دولاراً ونصف دولار، الى 7 دولارات. في ضوء هذه الواقعة يمكن تجديد دور ايران وانما بدعم من الصينوروسيا، كما يمكن تصور موقع دول"أوبك"المؤمّنة لأكثر من نصف الاستهلاك العالمي البالغ حالياً 85 مليون برميل يومياً. وفي تقديرات شركة النفط البريطانية فإن الآبار الحالية سيشح انتاجها خلال 40 الى 80 سنة. ومن المفترض ان يصل الرقم المستهلك طوال هذه الفترة الى تريليون برميل ومئتي مليون. أما نصيب منطقة الشرق الأوسط منها فيزيد على 62 في المئة. وقد يكون هذا الاستئثار خطراً، بقدر ما هو خطر نفاد الآبار من نفطها... * كاتب وصحافي لبناني